احدث الإشعارات

لماذا علم النفس الإسلامي؟

إن غياب علم نفس إسلامي متكامل ليس نتيجة لعدم وجود أسس فكرية، بل هو انعكاس لوهم عدم الحاجة إليه. فحينما تفتقر أمة ذات تاريخ حضاري عريق إلى تصور نفسي خاص بها، وتقبل باستنساخ النظريات الأخرى، والغربية خاصة، دون تمحيص، فإن هذا يعكس مشكلة في الوعي الذاتي الحضاري. بينما الأمة الإسلامية ليست كيانًا هامشيًا في التاريخ، بل لها دور محوري، وبالتالي من غير المنطقي أن تكتفي بنقل مفاهيم الآخرين دون أن تقدم رؤيتها الخاصة.

لماذا لا يكون لنا علم نفس إسلامي؟

الطرح النفسي هو جزءٌ أصيلٌ من البناء الحضاري لأي أمة، فكل حضارة ذات عمق ثقافي ومعطيات فكرية تقدم رؤيتها الخاصة حول النفس الإنسانية. وهذا ليس ترفًا أكاديميًا، بل ضرورة تمس حياة الأفراد والمجتمعات يوميًا. فالسؤال الحقيقي الذي ينبغي أن يُطرح ليس: “لماذا نحتاج إلى علم نفس إسلامي؟”، بل: لماذا تأخر ظهور علم نفس يعبر عن الرؤية الإسلامية؟

إن غياب علم نفس إسلامي متكامل ليس نتيجة لعدم وجود أسس فكرية، بل هو انعكاس لوهم عدم الحاجة إليه.
فحينما تفتقر أمة ذات تاريخ حضاري عريق إلى تصور نفسي خاص بها، وتقبل باستنساخ النظريات الأخرى، والغربية خاصة، دون تمحيص، فإن هذا يعكس مشكلة في الوعي الذاتي الحضاري. بينما الأمة الإسلامية ليست كيانًا هامشيًا في التاريخ، بل لها دور محوري، وبالتالي من غير المنطقي أن تكتفي بنقل مفاهيم الآخرين دون أن تقدم رؤيتها الخاصة.

وإن القبول غير النقدي لنماذج علم النفس الغربي، دون النظر إلى مدى توافقها مع القيم والمبادئ الإسلامية، هو في حد ذاته إشكالية. فإذا كنا نملك تراثًا غنيًا يزخر بمفاهيم نفسية راسخة، فلماذا نغفل عن تطويرها ونكتفي بتبني نظريات نشأت في سياقات مختلفة ثقافيًا ومعرفيًا؟ فالتأخر في بناء علم نفس إسلامي ليس مجرد نقص أكاديمي، بل هو في الحقيقة إخلال بحق حضاري ينبغي تصحيحه، لضمان أن يكون الطرح النفسي معبرًا عن هوية الأمة ومتوافقًا مع منظومتها الفكرية والأخلاقية.

لماذا لا بد من نقد علم النفس الغربي؟

وهنا تُطرح إشكالية تبَني علم النفس الغربي كما هو، دون مراجعةٍ أو نقد. فهذا في حقيقته لا يتناسب مع القيم الحضارية للأمة الإسلامية، التي لها جذور فكرية ونفسية راسخة في تراثها. فلو كنا أمة تفتقر تمامًا لأي طرح نفسي، لكان من المنطقي استعارة مفاهيم الآخرين. لكننا في الحقيقة نمتلك أساسًا غنيًا أهملناه في القرون الأخيرة، مما جعلنا نكتفي بدور المستهلك للنظريات المستوردة بدلًا من أن نكون مشاركين في إنتاج المعرفة. 

وهذه الحالة من القبول السلبي ناتجة عن مجموعة من الأوهام المنتشرة بين بعض المتخصصين والباحثين، منها الاعتقاد بأن علم النفس الغربي علم تجريدي محايد لا يتأثر بالخلفية الثقافية، وأن الطرح الإسلامي يفتقر إلى العمق الذي نجده في النظريات الغربية. كما يظن البعض أننا لا نملك الأدوات المنهجية اللازمة لإنتاج علم نفس إسلامي. والحقيقة أن الأساليب العلمية والمنهجية ليست حكرًا على حضارة دون أخرى، بل هي أدوات متاحة يمكن تطويعها بما يخدم احتياجات الأمة ورؤيتها الخاصة للنفس الإنسانية.

ولعله من المدهش أن بعض المتخصصين في العالم الإسلامي يتبنون الدفاع عن علم النفس الغربي أكثر من الغربيين أنفسهم. والساحة الأكاديمية الغربية مليئة بالجدل والنقد الداخلي بين المدارس المختلفة، فالنظريات النفسية الغربية لم تنشأ من فراغ، بل كانت نتيجة لسلسلة من النقاشات والتجارب والنقد المتبادل. فلماذا نُحجم نحن عن ممارسة النقد، بينما هو الوسيلة الأساسية للتطور العلمي، وأي علم لا يخضع للمراجعة والنقد يصبح جامدًا وغير قابل للنمو.

وهناك خطأ شائع يتمثل في الاعتقاد بأن كل ما هو “حديث” هو الأفضل، ويستند متبنوه إلى مبدأ أن التقدم في العلوم التقنية والهندسية ينطبق بنفس الدرجة على العلوم الإنسانية، لكن هذا غير دقيق؛ فالقيم والمبادئ الأساسية المتعلقة بالنفس البشرية لا تفقد صلاحيتها بمرور الزمن، كما أن كثيرًا من النظريات الغربية الحديثة مستندة إلى فلسفات قديمة، مما يثبت أن الأفكار لا تُستبدل لمجرد مرور الوقت، بل تخضع لمراجعات وتحولات فكرية عميقة.

لذلك، من الضروري أن نتحرر من هذه الأفكار المقيدة، وأن نعيد التفكير في كيفية التعامل مع النفس وفهمها خارج الإطار الغربي السائد، فالنقد ليس تهديدًا للمعرفة، بل هو عنصر جوهري في تطويرها، ولا ينبغي أن يكون مقبولًا فقط عندما يمارسه الغربيون تجاه بعضهم البعض، بينما يصبح مرفوضًا إذا صدر من خارج إطارهم الفكري. فالتفكير النقدي هو خطوة أولى نحو بناء علم نفس يتناسب مع قيمنا وهويتنا الحضارية.

الاختلاف على مستوى الإطار الفلسفي:

لا بد من ملاحظة أمرٍ جوهريّ، وهو أن أيّ علمٍ لا ينشأ في فراغ، بل ينبثق من رؤيةٍ شاملةٍ للعالم، أو ما يُعرف بـ“الباراديم” الحاكم، وهو الإطار الفلسفي الذي يحدد طبيعة الوجود والإنسان والحياة. والمشكلة الأساسية التي تجعل تبني علم النفس الغربي أمرًا غير ملائم للأمة الإسلامية هي أن “الباراديم” الذي تأسس عليه هذا العلم مختلفٌ جذريًا عن الرؤية الإسلامية للإنسان والكون.

فالفلسفة الغربية الحديثة، التي شكلت الأساس الذي بُنيت عليه العلوم الإنسانية بشكلها الحالي، تتبنى منظورًا ماديًا بحتًا، يرى أن الوجود مقصورٌ على المادة الفيزيائية، وينكر أيَّ بُعدٍ روحيٍّ أو غيبيّ. ووفقًا لهذا الإطار، فالنفس البشرية ليست سوى تفاعلاتٍ كيميائيةٍ وعصبية، ولا مكان للروح، كما أن الأديان تُعَامل باعتبارها نتاجًا ثقافيًا أو اجتماعيًا لا مصدرًا للمعرفة الحقيقية. هذا المنظور يفرض قيودًا على فهم الإنسان، ويحرمه من المفاهيم الروحية والإيمانية التي تؤثر في تكوينه النفسي.

أما المنظور الإسلامي فينظر إلى الإنسان ككائنٍ مركبٍ من بُعدين مادي وروحي، ويرى أن النفس ليست مجرد نتاجٍ للعوامل البيولوجية أو الاجتماعية، بل لها صلة بالجانب الغيبي، وتتأثر بالإيمان والعبادة والتجربة الروحية. وهذا الفارق الجوهري في التصور يؤثر في كل التفاصيل التطبيقية لعلم النفس؛ بدءًا من تفسير الظواهر النفسية إلى وضع النظريات العلاجية.

ولا يعني هذا رفض كل ما أنتجه علم النفس الغربي، فهناك جوانب تجريبية تطبيقية يمكن الاستفادة منها، لكنها يجب أن تؤخذ ضمن إطار فكري إسلامي متكامل، لا أن تصبح هذه الجزئيات هي الأصل الذي يُبنى عليه الفهم النفسي. فالفارق هنا كبيرٌ بين أن نأخذ النظريات الغربية كحقائق مسلّم بها، وبين أن ننطلق من “بارادايم” إسلاميٍّ ثم ننتقي من معطيات التجربة الإنسانية ما يتلاءم مع هذا الإطار.

وعندما يُدرك الإنسان حجم الاختلافات على مستوى “الباراديم” بين المنظور الإسلامي والغربي، يتغير فهمه لكل التطبيقات التي تبدو له في البداية محايدة أو قابلة للتبني. فما نحتاج إليه ليس مجرد تطوير علم نفس إسلامي، بل إعادة بناء التصور النفسي برمته وفقًا لمنظورٍ متكامل، بحيث تنشأ التطبيقات النفسية الإسلامية من هذا الإطار الكلي، تمامًا كما نشأت التطبيقات الغربية من فلسفاتها. وهذا لا يقتصر على علم النفس فقط، بل يمتد إلى مختلف العلوم الإنسانية وحتى الفنون، حيث إن أي إنتاج معرفي أو ثقافي يستند بالضرورة إلى تصور محدد عن الإنسان والوجود.

ما الذي سيتغير مع علم النفس الإسلامي: 

المنظور الإسلامي للنفس ليس مجرد بديلٍ للنظريات الغربية، بل هو إطارٌ شاملٌ يعيد صياغة الأسس والمفاهيم النفسية من جذورها. وعندما يُطرح السؤال عن الفرق الذي سيحدثه هذا المنظور في علم النفس، نجد أن الإجابة ليست مجرد تغيير جزئي في بعض الجزئيات والتطبيقات، بل هي إعادة هيكلة شاملة تبدأ من أصغر التفاصيل وصولًا إلى الأطر الكبرى التي تحكم فهم النفس الإنسانية، ومن ذلك:

تحوّل في المفاهيم الأساسية:

التحول الأول والأساسي الذي يحدث عند تبني الباراديم الإسلامي هو تغيير المصطلحات والمفاهيم النفسية ذاتها. فعلم النفس الغربي يستخدم لغة تقنية ذات طابع مادي، مثل: “التحيزات المعرفية”، “التشوه الإدراكي”، و”نقص تقدير الذات”، وهي مفاهيم مستمدة من رؤية مادية للإنسان. أما المنظور الإسلامي، فيستبدل هذه المصطلحات بمفاهيم أكثر شمولية مستوحاة من التراث الإسلامي، مثل: الصبر، التفاؤل، حسن الظن، والتسليم. هذه المصطلحات لا تعبّر فقط عن حالات نفسية، بل تشتمل على أبعاد أخلاقية وروحية تعزز التوازن النفسي للإنسان.

توسّع في أهداف علم النفس:

التغيير لا يتوقف عند المصطلحات، بل يمتد إلى الأهداف التي يسعى إليها علم النفس ذاته. في النظريات الغربية، تتركز المستهدفات النفسية على مفاهيم مثل: “الاستحقاق الذاتي”، “توكيد الذات”، و”التحكم في الانفعالات”، وهي مفاهيم تعزز الفردية وتسعى إلى تحقيق رضا الشخص عن نفسه ضمن إطار مادي بحت. أما في الرؤية الإسلامية، فالأهداف النفسية تتجاوز هذا الإطار المحدود لتشمل: الحياة الطيبة، السكينة، الرضا، الطمأنينة، تقوية البناء النفسي، وبناء العلاقات الاجتماعية السليمة. هذه الأهداف تضع الإنسان في سياق متكامل، بحيث يكون تحقيق التوازن النفسي جزءًا من تحقيق التوازن في الحياة كلها، وليس مجرد سعي لحالة شعورية مؤقتة.

رفض الاختزال واستعادة الشمولية:

من أبرز الإشكاليات التي تواجه علم النفس الغربي هي الاختزال، حيث يتم التعامل مع الإنسان باعتباره كائنًا ميكانيكيًا أو عقلًا متطورًا أشبه بالحاسوب، وهو نهج تأثر كثيرًا بنظرية “آلة تورنغ” التي تصوّر الإنسان كنظام معالجة معلومات متطور. هذه الرؤية تؤدي إلى فهم ضيق للإنسان يقتصر على أبعاده الإدراكية والانفعالية، متجاهلة الجوانب الروحية والقيمية. أما المنظور الإسلامي فهو يرفض هذا الاختزال، ويقدم تصورًا شاملًا للإنسان يجمع بين المادة والمعنى، العقل والروح، الجسد والنفس، مما يؤدي إلى فهمٍ أكثر عمقًا وتعقيدًا للسلوك الإنساني.

إعادة بناء علم النفس:

إذن، فإن تبني المنظور الإسلامي في علم النفس لا يعني مجرد استبدال بعض المصطلحات، بل هو مشروعٌ يعيد بناء هذا العلم من جذوره. يبدأ التغيير من القواعد الفلسفية التي تحكمه، وينعكس على مفاهيمه الأساسية، ثم يتجلى في ممارساته العملية، ليقدم في النهاية علم نفس أكثر إنسانية، وأكثر انسجامًا مع الفطرة، وأكثر قدرةً على تحقيق التوازن النفسي العميق للأفراد والمجتمعات.

 

 


  1. بودكاست سكينة | لماذا علم النفس الإسلامي؟

اترك تعليقاً

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً

ملخص سريع

إن غياب علم نفس إسلامي متكامل ليس نتيجة لعدم وجود أسس فكرية، بل هو انعكاس لوهم عدم الحاجة إليه. فحينما تفتقر أمة ذات تاريخ حضاري عريق إلى تصور نفسي خاص بها، وتقبل باستنساخ النظريات الأخرى، والغربية خاصة، دون تمحيص، فإن هذا يعكس مشكلة في الوعي الذاتي الحضاري. بينما الأمة الإسلامية ليست كيانًا هامشيًا في التاريخ، بل لها دور محوري، وبالتالي من غير المنطقي أن تكتفي بنقل مفاهيم الآخرين دون أن تقدم رؤيتها الخاصة.

إسهامات الكاتب الأخرى

من تلاقي الأضداد يُولد الوضوح الحقيقي، فنتزن بالجمع كما الطائر بجناحيه؛ فنُحلق بالرجاء والخوف، الشدة واللين، محدودية الإنسان

موضوعات ذات صلة

إن غياب علم نفس إسلامي متكامل ليس نتيجة لعدم وجود أسس فكرية، بل هو انعكاس لوهم عدم الحاجة

إن غياب علم نفس إسلامي متكامل ليس نتيجة لعدم وجود أسس فكرية، بل هو انعكاس لوهم عدم الحاجة

إن غياب علم نفس إسلامي متكامل ليس نتيجة لعدم وجود أسس فكرية، بل هو انعكاس لوهم عدم الحاجة

مقالات ذات صلة

إن الإيمان بالله الطريق الأقوم والأوحد لتحقيق الأمن النفسي في هذه الحياة، ومهما ذهب الإنسان في دروبها باحثا

إن غياب علم نفس إسلامي متكامل ليس نتيجة لعدم وجود أسس فكرية، بل هو انعكاس لوهم عدم الحاجة

لو نظرنا إلى سورة الفاتحة من هذه الزاوية، لوجدناها تشكِّل معينًا حياتيًا يوميًا للإنسان، ليبقى قلبه حيًا بمعاني

حين تعصف الأزماتُ بالقلوب، ويشتدّ الموجُ في بحر الحياة، لا تكون النجاة إلا في سفينة اليقين، وشراع السكينة،

الصبر خير مطية يبحر بها المسلم في رحلة الحياة الدنيا، يواجه به معاركها وأزماتها، إنه يجعل المرء دائما

تشعر العديد من الأمهات بالتقصير نظرًا لعظمة الدور الذي يقمن به، وهذا الشعور في حد ذاته دليل على

Scroll to Top