حين تتكلم المفاهيم بلسان الثقافة.
هل علم النفس الغربي محايد؟
سؤال يبدو غريبًا في ظاهره، لكنه في حقيقته يكشف واحدة من أعمق الأزمات المعرفية التي يعيشها هذا التخصص (أزمة التصور عن الإنسان).
فعندما يتناول أي علم “النفس”، لا يمكنه أن ينفصل عن سؤال: من هو الإنسان؟ ما غايته؟ ما الخير وما الشر؟
لكن علم النفس الغربي، في بنيته الحديثة، يتجاهل هذه الأسئلة عمدًا، ويدعي الحياد عبر أدوات رقمية وتجريبية دون أن يعترف أن هذه الأدوات محملة برؤية فلسفية وقيمية معينة.
النفس تحت المجهر المادي
المشكلة تبدأ من تعريف النفس نفسه. فعلم النفس الغربي لا يرى النفس إلا كما ترى في المختبر:
- وظائف دماغية.
- سلوكيات قابلة للقياس.
- مشاعر قابلة للتصنيف والتحليل.
في التصور الإسلامي، ترتبط النفس بمعانٍ أوسع تتجاوز الجسد والسلوك، مثل: الروح، القلب، الضمير، الإيمان، الصدق، محاسبة النفس، التوبة، الصبر، واليقين. لكن هذه كلها تستبعد من الدائرة العلمية الغربية، لأنها لا تقاس، ولا تحس، ولا تشاهد تحت المجهر. فهل هذا حياد؟ أم إقصاء متعمد للبعد الغيبي والأخلاقي من تركيبة الإنسان؟ (1)
الصحة النفسية من التزكية إلى التكيف.
حين يعرف الغرب “الصحة النفسية”، لا يقصد بها طمأنينة النفس أو رضاها بالله، بل يقصد بها غالبًا:
- القدرة على الإنتاج والعمل.
- التكيّف مع المجتمع.
- غياب الأعراض المزعجة.
أما في الإسلام، فالصحة النفسية تبدأ من تزكية النفس، وصدقها، وتوبتها، وسعيها نحو الرضا بالله والنجاة في الآخرة. (2)
لكن عند نقل المفاهيم الغربية كما هي، تحدث تحولات خطيرة في المعنى:
- فمثلًا: فتاة تبكي من خشية الله وتلوم نفسها على ذنب مضى؟ تُشخّص بأنها تعاني من “اكتئاب”.
- أو شاب يخاف من عذاب الآخرة ويكثر من الدعاء والبكاء؟ يقال له: “يعاني من قلق وجودي”.
المفاهيم التي تنطق بثقافتها
المفاهيم النفسية الغربية ليست بريئة، بل تحمل في طياتها قيمًا حضارية محددة:
- الفردانية.
- اللذة كغاية.
- مركزية الإنسان.
- غياب المرجعية الإلهية.
حتى المفاهيم التي تبدو عامة كـ” تحقيق الذات” أو “الصحة النفسية” تفهم غالبًا على أنها:
التحرر من القيود، الاكتفاء بالذات، والانعتاق من العقائد والتكاليف.
أما التشخيصات النفسية، والمقاييس، وأدبيات العلاج فهي مصممة لخدمة هذا النموذج، لا لفهم الإنسان كما هو في حقيقته. (3)
وقد بدأت تظهر محاولات علمية جادة للخروج من هذا الاختزال، من أبرزها ما يطرح في “النظرية النفسية الشاملة” للدكتور خالد بن حمد الجابر، والتي تسعى إلى:
- إعادة تعريف النفس من منطلق قرآني.
- الجمع بين الروح والعقل والجسد دون تفكيك.
- اعتبار التزكية غاية مركزية لا هامشية.
- استعادة الأخلاق والإيمان كعناصر أصيلة في البناء النفسي.
وهي رؤية تسعى لفهم الإنسان كما هو في الحقيقة، لا كما يراد له أن يختزل.(2)
وقد عبر عن هذا المعنى ببصيرة تربوية رفيعة الإمام ابن الجوزي، حين لامس طبيعة النفس ومآلاتها، فقال عن حال أهل الكسل والشهوات: “فلئن التذوا بعاجل الراحة لقد أوجبت ما يزيد على تعب من الأسف والحسرة“(4)
ويبرز ابن القيم في إغاثة اللهفان بدقة أن الطمأنينة الحقيقية لا تتحقق بالسكينة المؤقتة، بل حين يطمئن القلب إلى ربه ويسكن إليه، فيقول: “فهو دائمًا يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فيضيء عليه بشـر روح الحياة، وينفذ طعمها، وتصير له حياة.” (5)
ويؤكد الراغب الأصفهاني في تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين أن السكينة الإيمانية لا تنبع من فراغ، بل من تزكية النفس والجهد الصادق، فيقول: “فإن تزايد في فعله انضم إليه من الله تعالى باعث يهزه، وداع يبعثه عليه، كما قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ ﴾ (6)
ثم يصف أثر التزكية في موضع السكينة القلبية، فيقول: “ويصير قلبه إذا تطهر مقر السكينة والأرواح الطيبة، كما وصف الله تعالى المؤمنين: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ ﴾… فيسارع في الخيرات، ويسابق إلى مغفرة من ربه.”(6)
وهنا يظهر الفارق الجوهري.
التصور الإسلامي يشخص النفس من منبعها، ويعالجها في أصلها. فإذا اضطربت النفس، سألنا عن حال القلب، والنية، والتوبة، والصبر، والعلاقة بالله.
أما النموذج الغربي، فيكتفي غالبًا برصد الأعراض الخارجية وتصنيفها، ثم يسارع إلى تصنيفها ضمن قوائم معيارية (DSM مثلًا)، ويوجه العلاج نحو تهدئة هذه الأعراض دون فحص عميق للأسباب الإيمانية أو الأخلاقية أو المقصودة في حياة الإنسان.
ولهذا، يبقى النموذج الإسلامي أعمق وأصدق في فهم النفس…
لأنه لا يرى الإنسان آلة مضطربة، بل روحًا تبحث عن رشدها ونجاتها.
إذًا ما المشكلة؟
المشكلة أن هذا النموذج صدر نفسه على أنه علمي ومحايد، فقبله الناس كما هو، دون مساءلة أو نقد. بل إن بعض المتخصصين المسلمين تبنوه بالكامل، ثم أعادوا تفسير النفس والعبادة والضمير، بمفاهيم ومقاييس لا تنتمي إلى مرجعيتهم الأصلية. فغابت أسئلة المنهج والمصادر والغايات وحلت محلها تصورات غريبة عن الإنسان والمصير والنجاة.
نحو يقظة معرفية
الحياد في العلم لا يكون بالتغاضي عن الفلسفة، بل بالوعي بها، وتحكيم الرؤية الحق. ولا يمكن بناء علم نفس يعبر عن الإنسان كما يراه الإسلام، إلا إذا تحررنا من وهم الحياد، وبدأنا بالسؤال الجوهري: من هو الإنسان؟ ومن يحق له أن يعرفه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
- بودكاست سكينة | الحلقة الأولى: لماذا علم نفس إسلامي؟ مع د. خالد بن حمد الجابر.
- محاضرة تعريف النظرية النفسية الشاملة في علم النفس الإسلامي مع د.خالد بن حمد الجابر
- بودكاست كاف | حلقة: الإنسان وفخ النظريات النفسية مع د. خالد بن حمد الجابر.
- ابن الجوزي، صيد الخاطر، المكتبة العصرية، 1422هـ، ص. 204
- ابن القيم، إغاثة اللهفان، دار عالم الفوائد، الطبعة الثالثة، 1441هـ، ج1، ص. 118
- تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، للراغب الأصفهاني، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت، ص 93، 106