هل يدرس علم النفس – كما نعرفه اليوم – النفسَ فعلًا؟ قد يبدو هذا السؤال غريبًا أو ساذجًا للوهلة الأولى، لكنه يحمل في طياته عمقًا يحتاج إلى تأمل.
طرح الدكتور خالد الجابر هذا السؤال في إحدى حلقات بودكاست كاف، وكان لافتًا في بساطته وعمقه في آنٍ واحد. في البداية، ظننت أن الإجابة على هذا السؤال سيكون رأيًا شخصيًا لا يُلزم أحدًا، خاصةً وأن علم النفس شهد تطورًا كبيرًا خلال 150 عامًا الأخيرة، وتعددت فيه النظريات والآراء والاجتهادات التي انبثقت من بيئة غربية ثقافية معينة، شأنه في ذلك شأن سائر العلوم الحديثة. ولم أكن أرى في ذلك حرجًا، فالعلم ميدان مفتوح، ينتجه من يتقنه، ليكون تُراثًا إنسانيًا يستفيد منه الجميع.
لكن المفاجأة لم تكن في مجرد طرح السؤال، بل في الطريقة التي أجاب بها الدكتور خالد الجابر، حين قال بكل وضوح: “أن علماء النفس الغربيين لا يدرسون النفس!” مما أثار الدهشة لدى مقدم الحلقة الذي بادر بالسؤال:”وماذا يدرسون ؟” فأجابه الدكتور بهدوء:
“إنهم يدرسون العقل، وليس النفس!”
ثم بدأ في توضيح فكرته من خلال استعراض تاريخي دقيق، حين عاد إلى الجذور الفلسفية التي انطلق منها علم النفس في الغرب، مبينًا كيف أنّ هذا العلم قد نشأ على تصورات فلسفية لا ترى النفس ككيان مستقل أو حقيقي، بل تنظر للإنسان من زاوية العقل، أو السلوك، أو الدماغ بوصفه أداة بيولوجية بحتة.
ثم انطلق في تتبّع هذه الرؤية بداية من الفلسفة اليونانية عند أفلاطون وأرسطو، حيث طُرحت تساؤلات حول النفس والعقل والروح والقلب، لكنها بقيت منذ ذلك الوقت متداخلة وغير محسومة. ثم جاء ديكارت في القرن السابع عشر ميلادي، مؤسس الفلسفة الحديثة، ليقرر أن الإنسان يتكون من ثنائية الجسد والعقل فقط، واستبعد من معادلته كل ما لا يقاس كالروح والقلب والنفس.
ثم تطورت هذه الرؤية لتصبح أكثر تطرفًا في الفلسفة المادية الحديثة، فاعتبرت الإنسان مجرد جسدٍ مادي، والعقل مجرد أداة وظيفية بيولوجية، لا تختلف في جوهرها عن وظائف الكبد أو الرئة أو الكلى.
ويعود أصل هذا الاختلاف إلى سؤال ظل محل جدل طويل في الفلسفة الغربية: هل الإنسان مُجرد جسد مادي؟ أم أنه جسد وشيء آخر؟ ولم يكن هذا السؤال ثانويًا، بل كان نقطة الانطلاق التي تشكّلت منها تصورات متباينة حول ماهية الإنسان، وموقعه في الوجود، وطبيعة وعيه، وحدود مسؤوليته.
وقد انعكس هذا السؤال المحوري بوضوح على نشأة المدارس النفسية الحديثة، إذ يكشف الاختلاف بينها مدى التباين في فهم الإنسان، تبعًا لتصور كل مدرسة عن ماهيته وحدوده.
ففي المدرسة التحليلية يظهر الإنسان محكومًا باللاوعي والغرائز المكبوتة، وتُختزل نفسه في صراعات داخلية، لا ارتباط لها بالغيب أو المعنى.
وفي المدرسة السلوكية ترى الإنسان كائن متطور من كائنات أخرى ليس له إرادة، يتعلم من البيئة. وركزت على السلوك الظاهر فقط، الذي يمكن قياسه، وتجاهلت النفس تمامًا.
ثم جاءت المدرسة الإنسانية لتقدم نفسها أكثر تفاؤلًا بالإنسان، لكنها أقصت البُعد الإلهي تمامًا، فجعلت الإنسان مرجع نفسه، واعتبرت تحقيق الذات هو الغاية، دون اعتبار للغيب، أو للمفاهيم الإيمانية الكبرى، كالعبادة، أو الطمأنينة بالله، أو تزكية النفس.
وأخيرًا، جاءت المدرسة المعرفية لتعيد الاهتمام بالعمليات العقلية، مثل التفكير والانتباه واتخاذ القرار، لكنها – كغيرها – لم تعترف بالنفس أو تدخلها في دائرة التفسير.
وهكذا نكتشف أن علم النفس الحديث – على اختلاف مدارسه – يدرس ما هو مُشاهد ومحسوس، وبالتالي ستكون الحلول مادية فقط.
في المقابل، يُقدم التصور الإسلامي للإنسان رؤية شمولية تجمع بين البُعد المادي للجسد، والأبعاد الغيبية (النفس، والروح، والقلب، والعقل)، وبالتالي ستكون الحلول للإنسان بطبيعة الحال مادية ومعنوية .
فالإنسان – كما في الوحي – كائن مُركب يحمل بُعدين: ماديًا ومعنويا، وقد جاءت النصوص تؤكد هذا المعنى:
قال تعالى عن الروح: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ (الإسراء:85)
وقال تعالى عن النفس: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس:7-8)
وقال تعالى عن القلب: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ (ق: 37)
وقال تعالى عن العقل: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (البقرة:269)
ومن هذا التصور الشامل، تنبثق مفاهيم مثل الصبر، والرضا، والتوكل، والسكينة، كأدوات حقيقية في تهذيب النفس، وتحقيق التوازن النفسي، وتساعد على البناء النفسي، وتصنع من الإنسان صلابة نفسية تعينه على العيش والحياة برضا وسكينة وصبر عند الأزمات.
بينما في التصور الغربي، تظل هذه المعاني خارج نطاق البحث والتطبيق، لأنها لا تدخل ضمن النموذج التجريبي المادي الذي يقوم عليه علم النفس الحديث .
في الختام لا يسعني إلا أن أعبر عن دهشة وأسف عميقين؛ دهشة من بساطة الحقيقة، وأسف لأننا – كمسلمين – مضينا عقودًا ندرس علمًا لا يعكس تصورنا عن الإنسان، دون أن نشعر أننا تحت وطأة نموذج غربي أقصى النفس وهمش الروح.
كنا نظن أننا نُعالِج النفس، بينما كنا نُدرّس العقل ونتعامل مع الإنسان كمجرد سلوك قابل للقياس.
وجاء الدكتور خالد الجابر كمن أشعل نورًا في عتمة، ليس لأنه أتى بجديد، بل لأنه أيقظ فينا سؤالًا كان مؤجلًا: هل علم النفس الذي ندرسه… يدرس النفس حقا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع: