في قلب كل علم نفس، يوجد تصور ما عن “الإنسان”: من هو؟ ما غايته؟ ما تركيبته؟ وما الذي يصلحه أو يفسده؟
هذا التصور ليس مجرد خلفية فلسفية، بل هو البنية التحتية التي تُبنى عليها المناهج والتفسيرات والعلاجات.
وفي هذا المقال، نعرض ملامح “الإنسان” في النظرية النفسية الشاملة مبنية على الوحي القرآني والسنة النبوية وكتب التراث الإسلامي ونقارنها بجذور التصور الغربي.
أولًا: الإنسان مخلوقٌ مكلّف لا مجرد عاقل
من الأخطاء الشائعة اختزال الإنسان في “العقل”، وكأن تميّزه عن الحيوان محصور في التفكير أو اللغة.
لكن الحقيقة الأعمق – كما يقررها الوحي الرباني – أن الإنسان مكرَّم لأنه مكلّف، لا لأنه أذكى الكائنات.
قال تعالى “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ”. الأحزاب : 72
هذا التكليف الإلهي هو ما يجعل الإنسان موضعَ المسؤولية والمحاسبة.
فهو ليس كائنًا منفعلًا فقط ببيئته أو طفولته أو هرموناته، بل هو فاعل، حرّ، محاسب، مسؤول عن إصلاح نفسه، وتزكيتها، وتوجيهها. (1)
ثانيًا: الإنسان بنية مركبة لا وظيفة واحدة
ترى النظرية النفسية الشاملة أن الإنسان ليس “دماغًا” فقط كما في النموذج العصبي، ولا “سلوكًا” كما في السلوكية، بل هو:
- نفس: جوهر إنساني مكلّف.
- قلب: مركز الإيمان والتوجه والصدق.
- عقل: أداة الفهم والإدراك والتمييز.
- جسد: وعاء يُعين على التكليف.
- روح: نفخة من أمر الله.
وهذه البنية ليست ساكنة، بل تتفاعل وتنمو وتتزكى عبر العلم، والتربية، والعمل، والإيمان.(2)
ثالثًا: الإنسان مسؤول لا ضحية
في حين تركز كثير من المدارس الغربية على أن الإنسان نتاج للوراثة أو البيئة أو البرمجة المبكرة، تؤكد النظرية الإسلامية أن الإنسان مسؤول، لأنه اختار حمل الأمانة، وقدر له أن يسعى ويجاهد ويغير نفسه.
هذا يظهر بوضوح في “التعامل مع النفس”، حيث ينظر للنفس كـ”وعاء” يُملأ، ويُربى، ويُطهّر، لا كحالة جامدة تحتاج فقط إلى إدارة أعراض. (1)
رابعًا: الإنسان هو غاية علم النفس لا مجرد موضوعه
في التصور الإسلامي، لا يُدرس الإنسان لمجرد فهم حالته أو تعديل سلوكه، بل لأن بناء النفس هو الغاية الكبرى لعلم النفس.
فالعلاج، والتشخيص، والتربية، ليست أهدافًا منفصلة، بل وسائل تؤدي إلى هدف واحد:
إنسان يعرف ربه، يزكّي نفسه، ويعيش حياة ذات معنى وسكينة.
بعكس النموذج الغربي الذي يدرّب الإنسان على التكيف فقط، تسعى النظرية النفسية الشاملة إلى تكميل الإنسان لا تسكينه، وإصلاح النفس لا تهدئتها فقط.(3)
خامسًا: الإنسان متحول قابل للتزكية لا حتمية ميؤوس منها
يؤمن النموذج الغربي أن الخلل النفسي قد يكون حتميًا: كيميائي، جيني، أو طفولي لا يُمكِن تغييره.
أما النظرية النفسية الشاملة، فترى أن الإنسان قابل للتغيير دائمًا، ما دام حيًا ومكلَّفًا:
“قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا“. الشمس: 9
وهذا يفتح باب الأمل، ويجعل النفس قابلة للبناء، والتزكية، والإصلاح، لا لمجرد التسكين والتكيف. (4)
سادسًا: الإنسان يبحث عن السعادة الحقة لا مجرد اللذة أو التكيف
لم يُخلق الإنسان ليدار كآلة، أو يُسكت ألمه دون فهم سببه أو معناه ، بل خلق ليسعى إلى السكينة التي تمس القلب وتروي روحه.
بينما تكتفي النماذج الغربية بتدريبه على التكيّف مع الضغوط، ولو كانت ناتجة عن واقع مختل،
تتجاوز النظرية النفسية الشاملة هذا السقف، فترى أن الإنسان لا يطمئن إلا إذا عرف غايته، وسار نحوها.
السعادة ليست لحظة متعة عابرة، بل ثمرَةُ الإيمان، والعمل الصالح، والتسليم لحكمة الله.
لا يكفي أن “يتعايش” مع الحياة، بل ينبغي أن “يفهمها ويعلو عليها”.
فالنفس لا تشفى بالكامل إلا إذا وصلت بخالقها، وعاشت على نور من غايته. (5)
سابعًا: الإنسان في الغرب… نسخة مادية منقوصة
النموذج السائد في علم النفس الغربي غالبًا ما يُنتج تصورًا ناقصًا عن الإنسان:
- فرداني
- محايد دينيًا
- يلاحق الإنجاز واللذة
- مبرمج بيولوجيًا أو نفسيًا
وهذا التصور يُنتِج علمًا لا يعترف بالنفس كمخلوق مكلَّف، ولا بالقلب كمحل للهداية، ولا بالروح كنفخة ربانية، ولا بالأخلاق كموضوع علاجي. (6)
الخاتمة: أيُّ إنسان نريد أن نبني؟
في النهاية، علم النفس ليس محايدًا كما يُشاع. كل نموذج نفسي يبني تصوره الخاص عن الإنسان.
فالسؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه:
أي إنسان نريد؟ الإنسان العاقل فقط؟ أم الإنسان المؤمن، الحر، المكلّف، الساعي إلى التزكية والسكينة؟
النظرية النفسية الشاملة تجيب: نريد الإنسان الذي أراده الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
- كيف يعيننا علم النفس الإسلامي في التدين – د. خالد بن حمد الجابر
- محاضرة المصطلحات النفسية الأربعة في القرآن والسنة: الروح، والنفس والقلب والعقل | د.خالد الجابر
- لماذا علم النفس الإسلامي
- محاضرة تعريف النظرية النفسية الشاملة في علم النفس الإسلامي مع د.خالد بن حمد الجابر
- وصفة السعادة. مع د خالد بن حمد الجابر . الحلقة 4
- الإنسان وفخ النظريات النفسية | د. خالد بن حمد الجابر