إذا أخذنا مثال “القلب” مدخلًا لفهم المنهج العلمي الإسلامي. فإننا نجد نصوصًا صريحة وكتابات متتابعة لا يجوز إنكارها ومخالفتها، تؤكد أن القلب له دور في العمليات النفسية. وهذا هو الدليل الثقافي، أو الدليل النقلي.
ثم هناك أدلة عقلية وحسية أخرى كثيرة.
قراءة إسلامية لنتائج البحوث العصبية: تسند كثيرًا من الطرح الإسلامي.
الدليل على وجود “القلب” – بالمعنى الذي قرّره النص – لا نأخذه من البحوث العصبية نفسها، بل من النقل الصحيح أولًا.
لكن، عند قراءة نتائج البحوث العصبية قراءة تحليلية غير خاضعة للاختزال المادي، نجد أنها في كثير من جوانبها تُسند الطرح الإسلامي، من حيث لا تقصد. فالأبحاث العصبية المعاصرة، رغم تقدم أدواتها، لا تزال تُظهر عجزًا مستمرًا عن تفسير الظواهر النفسية العليا (كالنية، والإرادة، والوعي، والمعنى). وهذا ما أقرّ به بعض أعلام التيار العلمي نفسه، كستيفن بينكر، الذي قال صراحة: “علم الأعصاب المعرفي يعطينا معلومات عن الدماغ، لكنه لا يُنتج بمفرده تفسيرات للغة، أو المعنى، أو التخطيط.”
(How the Mind Works, p. 34)
وكذلك صرّح جون سيرل بأن: “الوعي قابل للرد سببيًا، لكنه غير قابل للرد أنطولوجيًا.”
(Mind: A Brief Introduction, p. 28)
أي أن الدماغ يسبب الوعي، لكن الوعي في حقيقته ليس مجرد عملية دماغية يمكن ردّها إلى نشاط كهروكيميائي.
مثل هذه التصريحات – التي تمثل اعترافًا علميًّا حقيقيًّا – تفتح الباب أمام تصور مختلف لماهية النفس، يتجاوز البنية المادية. وهذا بالضبط ما أكده النقل الصحيح: أن هناك قلبًا، هو محل الفهم والإدراك والتوجه، وأنه ليس الدماغ، ولا يُختزل فيه، وإن كان مرتبطًا به سببًا وتفاعلًا.
وبذلك تكون القراءة المتزنة لنتائج البحوث العصبية، لا سبيلًا لنفي الطرح الإسلامي، بل وجهًا من وجوه تعزيزه العقلي والواقعي، حين نقرأ العجز التجريبي لا باعتباره نقصًا عابرًا، بل دليلًا على أن النفس أوسع من أن تُحاط بالحس فقط.
هناك نوع آخر من الأدلة الحسية هو في صالحنا: عجز الأدلة التجريبية عن كشف الظاهرة النفسية كشفًا كاملاً. هذه الفجوات المستمرة، رغم تطور تقنيات التصوير العصبي، تدلنا على وجود شيء آخر، لا تستطيع الأدلة الحسية الوصول إليه.
إذن نحن ننظر إلى هذه الأبحاث الدماغية قراءة مختلفة، لا باعتبارها دليلًا حاسمًا على الحتمية العصبية، بل باعتبارها شاهدًا على وجود جانب غائب عن أدواتهم. هذا الجانب الغائب، قد بيّنه لنا النقل، بالنصوص الصحيحة الصريحة. وهذا هو المطلوب إثباته.
الدماغ وحده غير كافٍ لتفسير جميع الظواهر النفسية. هناك منطقة أخرى مرتبطة بالصدر، يُطلق عليها في النصوص اسم “القلب”، وهي ليست مجرد المضخة العضلية المعروفة، لكنها مرتبطة غالبًا بالروح، ومكانها في الصدر. طبيعتها لا نعلمها على وجه التحديد، لكن وجودها معلوم بالنص الصريح، ومدعوم بالعقل، وتؤيده الفجوات التي عجز الحس عن ملئها.
لماذا القول بوجود شيء آخر غير الدماغ ضرورة علمية؟
بلغة غير دينية، يمكن إثبات أن الدماغ وحده لا يستطيع إدارة المشهد النفسي بالكامل.
فالأدلة الحالية، رغم كثافتها، تُثبت عجز الدماغ عن القيام بجميع الأدوار النفسية، بل تُظهر أنه يؤدي دورًا جزئيًا في العمليات التنفيذية الحياتية، في حين أن هناك مستويات نفسية أعلى، لا يستطيع الدماغ – بوصفه عضوًا مادّيًا – الإحاطة بها أو إدارتها.
ولتوضيح هذا، يمكن تقسيم الظواهر النفسية إلى مستويات متدرجة:
- هناك المستوى التشغيلي التنفيذي: ويشمل المهام اليومية المرتبطة بالحركة، والانتباه، واللغة، واتخاذ القرار الوظيفي. هذا هو المجال الذي يعمل فيه الدماغ بكفاءة وظيفية.
- وهناك مستوى أعلى من ذلك: ليس المقصود به فقط ما يسميه المعرفيون “الوظائف العقلية العليا” (كحل المشكلات أو التفكير المجرد)، بل مستوى مرتبط بوجود الإنسان نفسه، بغاياته، بإرادته، بتوجهه، بمحبة ما، وبكراهية ما، واختيار ما، ومعنى ما.
ويدخل فيه ما يسميه العلماء المتقدمون أعمال القلوب، أي العمليات النفسية الغائية: كالإيمان، والرضا، والخوف، والتوكل، والعزيمة، والنية، والسكينة، وغيرها. وهي حالات لا يمكن ردّها إلى إشارات كهربائية أو تفاعلات كيميائية، ولا تنشأ من نشاط دماغي صرف.
من يعمل في الحقل النفسي بعمق علمي وتجريبي، يدرك أن هذه المستويات المختلفة لا يمكن تفسيرها جميعًا بنموذج دماغي اختزالي. بل إن كثيرًا من البحوث العصبية المعاصرة، سواء في علم الوعي، أو في دراسات الإرادة والانتباه والنية، تُظهر إشارات وقرائن واضحة على وجود فجوة لا يملؤها الدماغ وحده.
وهذه القرائن والأدلة موجودة ومبسوطة في المراجع الغربية المعاصرة نفسها، لمن أراد التوسّع، وهي تؤكد ما نقرّره هنا: أن المشهد النفسي الإنساني لا يمكن أن يُدار من الدماغ فقط، بل لا بد من وجود محل آخر، له طبيعة مختلفة، وهو ما يعبّر عنه النقل بـ”القلب”.
الوظائف النفسية العليا، التي يعجز الدماغ وحده عن القيام بها.
يمكن تقسيم الوظائف النفسية العليا إلى ثمان مجموعات متمايزة، تمثّل المستويات التي يعجز الدماغ – وحده – عن إدارتها أو تفسيرها تفسيرًا كاملًا:
1) الوعي والهوية الذاتية، بما يشمله من الشعور بالذات واستمرارية الهوية؛
2) القصدية والتوجّه للمعنى، وهي السمة التي تجعل العقل يتجه نحو غاية لا تختزل في النشاط العصبي؛
3) الإرادة والاختيار، بما تضمنه من حرية جزئية لا تفسَّر بالحتمية البيولوجية؛
4) الانفعالات والمشاعر، وهي خبرات معيشة لا تنتجها الدوائر الدماغية وحدها؛
5) الذاكرة الوجدانية والهوية الزمنية، بما فيها من إحساس ذاتي بالزمن والتجربة؛
6) الإيمان الفطري بوجود إله، وهي نزعة مثبتة في دراسات علم النفس التطوري والتفسيرات الغائية عند الأطفال؛
7) الإدراك الأخلاقي؛
8) التكليف والمسؤولية والمحاسبة والجزاء، وهي أعمق من مجرّد آليات عصبية، وتفترض ذاتًا مدركة مكلفة.
هذه المجموعات الثمان تعبّر عن نطاق الوجود النفسي الكامل، وهي المدخل لفهم النفس الإنسانية كما هي، لا كما يراد اختزالها في معادلات كهربائية أو تصوير دماغي. وقد أشار إلى هذه الأبعاد العميقة عدد من الباحثين والفلاسفة الغربيين المعاصرين، مثل ديفيد تشالمرز، وجون سيرل، وهنري برغسون، وشون غالاغر، وروبرت كين، وريموند تاليس، وغيرهم، وكلهم يقرّون – بدرجات مختلفة – أن تفسير العقل الإنساني لا يكتمل عبر الدماغ وحده.
ومن هنا نفهم سر إصرار القرآن على نسبة الفهم والإدراك والتكذيب والإيمان إلى القلب.
لا لمجرد المجاز أو التوسع، بل لدلالة مباشرة لا يُصرف معناها، كما لا يمكن تأويلها بما يُلغي دلالتها الظاهرة. ولهذا أيضًا نجد جمهور العلماء – من المتقدمين – يُقرّرون أن محل العمليات النفسية العميقة هو القلب، لا الدماغ فقط، وأن الإنسان لا يُعرَف بمجرد تفاعلاته العصبية، بل بما وراء ذلك من إدراك، وقصد، ونيات، وتوجّه، وإيمان، ومسؤولية.
السبب في هذا التصور أن الإنسان لا يُفسّر بدماغه فقط، بل لا بد من وجود شيءٍ آخر يتلقى، ويقصد، ويؤمن، ويختار، ويتوجّه… وهذا هو ما عبّر عنه النقل باسم “القلب”.
وعجز أدوات الحسّ المعاصرة عن اكتشاف هذا “الشيء الآخر” لا يدل على عدم وجوده، لأن المعرفة لا تنحصر في الحس المباشر، بل تقوم أيضًا على الاستدلال العقلي والنقلي، وعلى الشواهد غير المباشرة.
فالإنسان إنسانٌ ليس لأنه يملك دماغًا يُحلّل، بل لأنه كائن:
- يُكلّف ويُحاسب،
- يدرك الغاية ويطلب المعنى،
- يختار ويفعل ويترك،
- يعي ذاته وزمانه،
- ويؤمن بفطرته ويشعر بالمسؤولية الأخلاقية.
كل هذه الوظائف لا يُمكن إرجاعها إلى الدماغ فقط، بل تتطلب محلًّا آخر، هو موضع الإشارة القرآنية، ومعقد التكليف الإلهي.
بقيت نقطة أود التنبيه عليها:
حيث وردت في السؤال عبارة “القلب الذي هو عضو في جسم الإنسان”، فهذا ليس تعبيرًا دقيقًا عن المنظور الإسلامي. فنحن لا نقول إن هذا العضو اللحمي المعروف ـ أي المضخة العضلية التي تضخ الدم ـ هو المسؤول عن التفكير أو الإدراك أو الانفعال. هذا تبسيط مخلّ. وإنما نقول بوضوح: الدماغ وحده غير كافٍ لتفسير جميع الظواهر النفسية، وهناك منطقة أخرى مرتبطة بالصدر، يُطلق عليها في النصوص اسم “القلب”، وهي ليست هذه الكتلة الصنوبرية اللحمية، ولكنها في هذا الموضع، ومرتبطة غالبًا بالروح، وطبيعتها غير معلومة لنا بدقة.
نحن لا ندّعي أننا نعرف كنهها، ولا طبيعتها التفصيلية، لكنها موجودة قطعًا بدلالة النص أولًا، وبدلالة العقل أيضًا، ولأن الحسّ والتجريب ـ على تقدّمه ـ لا يزال عاجزًا عن تفسير كامل للظواهر النفسية انطلاقًا من الدماغ فقط. وهذا العجز المستمر نفسه دليل إضافي على أن الصورة التي يقدمها الوحي ليست ضد العقل، بل هي مكملة له، وشارحة لما عجزت أدوات التجريب عن الوصول إليه.
.
المسألة الجوهرية في المنظور الإسلامي حين نثبت وجود “القلب” أو “شيء آخر غير الدماغ”، لا تتعلق بمجرد البحث عن مركز عصبي إضافي، بل تتعلق بقضية أعمق:
هناك مجموعة من الوظائف والحقائق الإنسانية لا يمكن – بأي وجه – نسبتها إلى جهاز مادي مغلق يعمل بقوانين ذاتية تلقائية، كحال الدماغ الذي يُدار بالكهرباء والكيمياء الحيوية، ويعمل ضمن منظومة لا اختيار لها.
في التصور الإسلامي، الإنسان ليس مخلوقًا وظيفيًّا فقط، بل كائن مكلف، مسؤول، مجازى على فعله، مخيّر بين الهدى والضلال، محاسب على النية والعزم والمحبة، مطالب بالإيمان أو معرض للكفر، وكل هذه المعاني تقتضي وجود محل قادر على الإرادة، وعلى الاختيار، وعلى تحمّل المسؤولية، لا مجرد عضو مادي آليّ التشغيل.
ولهذا لا يمكن قبول بعض الأطروحات الغربية التي تقول إن جميع هذه الوظائف العليا موجودة في الدماغ، لأن الإشكال ليس في وجود “محل” فقط، بل في وجود ذات مسؤولة، مريدة، مختارة، ومكلفة، قادرة على أن تُحاسَب وتُخاطَب وتُؤمن أو تكفر.
ولهذا، فإن نسبة جميع العمليات النفسية إلى الدماغ فقط، لا تكفي في المنظور الإسلامي، لأنها تُلغي البعد الذي عليه مدار التكليف والجزاء، وهو القلب بوصفه محلًّا للفهم والإرادة والميل والقصد.
والله أعلم.