منذ بدايات التفكير الإنساني، سعى الإنسان لفهم ذاته: من هو؟ ممّ يتكون؟ وما الذي يحركه؟
أسئلة حملتها الفلسفة الغربية، وتلقفها علم النفس الحديث، وحاول الإجابة عنها وفق أدواته، لكن الإجابات اختلفت بتعدد المناهج والرؤى. وقد أدى هذا إلى نشوء علم نفسٍ مادي، يهتم بما هو مشاهد ومحسوس، وينظر للإنسان من زاوية واحدة، ويهمل الأبعاد الغيبية أو غير القابلة للقياس.
في المقابل، يقدم المنظور الإسلامي رؤية أكثر شمولًا وتركيبًا للإنسان، باعتباره مكونًا من أربعة أبعاد متداخلة: النفس، والعقل، والقلب، والروح.
وقد فصّل الدكتور خالد الجابر هذه الأبعاد في لقائه ضمن برنامج (بصائر) على إذاعة الرياض، موضحًا أن التكامل بينها هو مفتاح التزكية، والتوازن النفسي، والنضج الإنساني الحقيقي.
أولًا: الروح
الروح هي سر الحياة، وهي التي تبعث في الجسد حركته ووعيه، وتدير مكوناته الداخلية.
وقال في هذا السياق:
“الروح في المنظور الإسلامي هي سر الحياة، هي التي جعل الله سبحانه وتعالى فيها خاصية إيجاد الحياة للجسد إذا التصقت فيه، والروح تجري كما جاء في الحديث في الجسد مجرى الدم في العروق بطريقة لا نعرفها، فالروح هي التي تُدبّر الجسد، هي التي تُدير الجسد.” (1)
ثم يوضح علاقتها بباقي مكونات الإنسان:
“الروح هذه تحتها ثلاث أشياء: العقل، والنفس، ثم القلب. هذه ثلاث أشياء ليست أجسامًا أخرى لأن الروح مخلوقة من مادة مختلفة عن المواد التي نعرفها نحن” (1)
وهكذا، فإن الروح في التصور الإسلامي ليست كيانًا ماديًا محسوسًا، ولا تجريدًا ذهنيًا، بل مخلوق حقيقي غيبي، يتجاوز الحواس، ويتفاعل مع أعماق الإنسان.
ثانيًا: العقل
العقل في التصور الإسلامي يتجاوز المفهوم الشائع له كوظيفة دماغية، بل هو قوة متعددة المهام.
وقد أشار الدكتور خالد إلى أن بعض العلماء يقسمون العقل إلى عقلين:
- عقل الإدراك:
يشترك فيه جميع الناس، بل حتى بعض الكائنات الأخرى. وظيفته تفسير المعلومات، وإدراك المعاني. - عقل الرشد:
هو الذي يوجه الإنسان نحو الخير، ويضبط اختياراته، ويعينه على تهذيب النفس.
كما أن للعقل وظائف متعددة تشمل: الإدراك والتمييز بين الصواب والخطأ، والإرادة، والاختيار.
ولا يكون للعقل أثر فعال إلا إذا كان متصلًا بالقلب، ومستضيئًا بنور الإيمان.(1)
ثالثًا: النفس
النفس هي الموضع الذي تنبع منه الانفعالات والرغبات، والاختيارات، والميل والكره، والخوف والطموح.
وهي قابلة للتغيير بحسب التهذيب والتربية، وتظهر في القرآن بثلاثة مظاهر:
- الأمارة بالسوء: إن تُركت دون ضبط.
- اللوامة: حين تبدأ في مراجعة نفسها.
- المطمئنة: حين تبلغ التزكية والرضا.
وهذه ليست أنواعًا منفصلة للنفس، بل هي مراحل متبدلة بحسب حال الإنسان. وقد شبهها الدكتور بالطفل الذي يحتاج إلى تربية وصبر حتى يستقيم ويتوازن. (1)
رابعًا: القلب
القلب في المنظور الإسلامي ليس فقط موضع الإيمان، بل هو محل التفاعل العقلي والنفسي.
والقلب هو محل للعقل والنفس، لا مجرد عضو بيولوجي. فيه تقع النية، وتنبعث الإرادة، وتحصل الطمأنينة أو الوسوسة.
وقد قال الله تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌۭ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا ۖ﴾، مما يثبت أن الفقه ليس فقط بالعقل المجرد، بل بالقلب المتفاعل.
والقلب هو أيضا موضع نظر الرب، ومركز الأعمال القلبية مثل: الصبر، الخشية، التوكل، النية، والإخلاص.(1)
ومن الشواهد المهمة على أن القلب محل التأثر والإدراك، ما ورد في حادثة شق صدر النبي ﷺ، وهي حادثة صحيحة ومتكررة في السيرة، حيث جاءه ملكان فصرعاه، ثم شقّا صدره، وأخرجا قلبه، وغسلاه في طست من ذهب، وأزالا منه علقة سوداء.
وقد علّق الدكتور خالد على هذا بقوله:
“لو كانت الحكمة أو العمليات العقلية في الدماغ، لشُقّ رأسه، لكن الذي شُق هو صدره، وأُخرج قلبه؛ لأن القلب هو محل للعمليات النفسية، ومحل الحكمة.” (2)
التكامل والتفاعل
الإنسان بطبيعته كائن ميتافيزيقي، يحمل في تكوينه بعدًا غيبيًا يجعله مفطورًا على التوجه إلى الخالق سبحانه، متشوقًا للغيب، متدينًا بالفطرة.
الروح والعقل والنفس والقلب مكونات مترابطة داخل الإنسان، لا تعمل بشكل منفصل، بل يتفاعل كل منها مع الآخر بشكل مستمر.
فإذا أحسن الإنسان إدارة العلاقة بين العقل والنفس والقلب إدارة جيدة بلغ قدرًا أعلى من الاتزان النفسي. فالنفس مصدر الرغبات والانفعالات، والعقل هو القوة المدركة التي تميز وتوجه.
وعندما يوجّه العقل النفس، تتحقق صحة نفسية أفضل.
والقاعدة أن النفس وعاء، تتشكل بما تُربّى عليه: فإن زُكّيت سمت، وإن تُركت لهواها اتبعت السوء، فهي إما أمّارة بالسوء أو دافعة نحو الخير، بحسب ما يُغذى بها. (3)
نقد الفلسفة الغربية في هذا السياق
الفلسفة الغربية منذ العصور الحديثة وحتى المدارس النفسية المعاصرة، ارتكزت على اختزال الإنسان إلى جوانب مادية أو عقلية محدودة، مستبعدة بذلك النفس والروح والقلب ككيانات ذات وجود حقيقي. وقد أدى هذا الاختزال إلى بناء نماذج قاصرة عن الإحاطة بحقيقة الإنسان.
- فالتحليلية اختزلت النفس في صراعات غريزية داخلية.
- والسلوكية اختزلت الإنسان في السلوك الظاهر القابل للقياس.
- والمعرفية اختزلت الإنسان في العمليات العقلية كـ: المعالجة والتفكير والذاكرة.
- والإنسانية اختزلت الإنسان في مرجعيته الذاتية دون الرجوع إلى مرجعية عليا.
هذا الاختزال لم يخل من آثار على المستوى التطبيقي، إذ تحول الإنسان في هذه النماذج إلى “كائن وظيفي” يشتغل كآلة، وقد علق الدكتور خالد الجابر على هذا التوجه قائلًا:
“العامل المشترك هي النظرة الاختزالية، وأن كل واحد منهم يفسر المشاكل النفسية بناءً على جزئية معينة وبالتالي، كل هذه النظريات واقعة في مشكلة المنظور الاختزالي أو التفسير الوحيد.” (3)
ثم أضاف:
“الفلسفة المادية تقول إن الإنسان والكون كله عبارة عن كينونة واحدة مادية محسوسة بالحواس الخمس، فجزء كبير من الكون محذوف من هذه الفلسفة: الله، الدين، الغيب.” (3)
وهو ما أدى إلى تشوّه صورة الإنسان في هذه النماذج، إذ لم تعد تعبر عن حقيقته الكاملة، ولا عن عمق تكوينه المتعدد الأبعاد.
وتعاملت المدارس النفسية الغربية معه كحالة مرضية أو إجرائية، لا ككائن معنوي متعدد الأبعاد غير قابل للوزن أو القياس.
ختامًا
يقدم النموذج الإسلامي – كما بلورته النظرية النفسية الشاملة – تصورًا غنيًا ومتماسكًا، يعترف بكل مكونات الإنسان، ويوازن بين المعنى والمادة دون إغفال أي بُعد من أبعاد الإنسان. نموذجًا يعمل خارج حدود المعامل والمختبرات، ويحترم تعقيد الإنسان وتركيبه.
ونموذجًا متكاملًا يرى الإنسان كما خلقه الله: جسدًا ونفسًا وعقلًا وقلبًا وروحًا .
المراجع :