الفرق بين المنهج العلمي الغربي والمنهج الإسلامي:
السؤال يشترط وجود دليل تجريبي حسي يُثبت بأي شكل من الأشكال أن القلب العضو في الجسم له دور في العمليات النفسية أو الانفعالية أو الفكرية. وإذا فشلنا في إيجاد دليل حسي مباشر، يثبت أن القلب له دور في الظواهر النفسية، فهذا يعني أن القول بدور القلب هو خرافة علمية، وعلم زائف. المسألة في أصلها ليست معلومة ناقصة، بل اختلاف في الإطار المعرفي (epistemological framework).
المنهج العلمي الغربي المعاصر ـ وخاصة في العلوم النفسية ـ يقوم في الأساس على الحس والتجريب، ويشترط وجود دليل حسي مشاهد أو قابل للقياس ليُعد الأمر “علميًا”. لكن هذا الاشتراط نفسه مبني على افتراض إبستمولوجي مُسبق، يُقر أن المعرفة لا تُقبل إلا إذا كانت حسية مشهودة، ولو كان الدليل الحسي ضعيفًا، وأنه لا يُلتفت إلى غير ذلك من الأدلة.
وهذا الاشتراط الذي يُلزمون به جميع الأمم لا نوافق عليه، ولا نعدّه مُسلّمة، بل نراه أحد أسباب الأزمة في علم النفس الحديث، لأنه أدّى إلى مشكلات أكثر مما أدّى إلى حلول.
وفي المقابل، المنظور الإسلامي يقرر أن المنهج العلمي المنضبط يقوم على ثلاثية متكاملة: العقل، والنقل، والحس. وكل انحراف عن هذه الثلاثية يؤدي إلى اضطراب في البناء المعرفي. فمن اكتفى بالعقل فقط كما فعل بعض الفلاسفة وقع في التجريد والانفصال عن الواقع، ومن اكتفى بالنقل فقط ولو خالف الحس وقع في الخرافة كما عند بعض المذاهب. ومن اكتفى بالحس فقط ـ كما هو شائع في علم النفس المعاصر ـ وقع في عجز تفسيري وفجوات معرفية متراكمة.
وهذا لا يعني أن علم النفس الإسلامي يقوم فقط على تفسير النصوص الشرعية. من يظن ذلك، فقد أخطأ فهم طبيعة المنهج العلمي في المنظور الإسلامي. فالمنهج العلمي الإسلامي منهج شمولي، يؤمن أن لكل نوع من المعرفة ما يناسبها من الدليل، في ثلاثية متكاملة: النقل والعقل والحس. ولا يُقبل عندنا أي تفسير يصطدم صراحة بأحد هذه الأركان الثلاثة.
وسنطبقه بعد قليل على مثال القلب.
مقارنة بين نتائج المنهجين وأيهما أصلح:
الاعتماد فقط على الأدلة الحسية في علم النفس، واعتقاد أنها كافية في الوصول إلى علم نفس قوي وثابت، هو خطأ استراتيجي، ووهم إبستمولوجي شنيع. الأدلة الحسية وحدها عاجزة عن النفاذ إلى عمق النفس، والعقل وحده لا يستغني عن بيان الوحي، والنقل نفسه لا يتعارض مع الحس، بل يؤكده. ومن يظن أن الاكتفاء بالدليل الحسي وحده يجعله “علميًّا” ويُبعده عن “الخرافة”، فنقول له بوضوح: أنت تعيش في وهم إبستمولوجي كبير جدًّا.
والدليل على ذلك ظاهر: علم النفس، رغم أكثر من 150 سنة من الالتزام بهذا النوع من الأدلة، لم يستطع أن يتحول إلى علم صلب (hard science) على غرار الفيزياء أو البيولوجيا. النفس البشرية لا تخضع كليًا للأدلة الحسية، لأنها لا تُختزل في بنية مادية قابلة للملاحظة المباشرة.
بل إن كثيرًا من نظريات علم النفس المعرفي، وهو أقوى فروع علم النفس التجريبي، هي في حقيقتها محاولات لردم فجوات معرفية، وليست نتائج حاسمة. فما يُقال مثلا عن “الإدراك”، و”الانتباه”، و”الذاكرة العاملة”، و”التمثيلات العقلية” هو في الغالب توصيفات وظيفية لظواهر لم تُفهم تمامًا، وليست تفسيرات سببية، ناتجة عن مشاهدة حسية فعلية. نحن نعرف جزءًا من الظاهرة، ونكمل الباقي بتخمينات منظمة.
لهذا كله لا يُلزم ولا يُشترط، ولا يحق لأحد أن يُطالبنا بأن نحضر دليلًا حسيًا على كل ما يتعلق بالظواهر النفسية، لأن هذا لم ينجح حتى عند من تبناه، وما زالت الفجوات المعرفية في علم النفس كبيرة، على الرغم من كل الثورة التجريبية. النفس البشرية لا تخضع كليًا للأدلة الحسية، لأنها لا تُختزل في بنية مادية قابلة للملاحظة المباشرة.
الطريقة الصحيحة لبناء علم نفس متماسك وقوي هي الجمع بين النقل والعقل والحس. هذه الطريقة وحدها القادرة على الوصول إلى علم متوازن متناسق، لأنها تجمع بين تفسير النص، وتحليل العقل، وملاحظة الواقع.
بل إننا نقول إن الانضباط المنهجي الذي تسعى إليه جميع المدارس العلمية والفكرية، لا يتحقق إلا بالأخذ بهذه الثلاثية: العقل والنقل والحس معًا. أي إخلال بهذه الثلاثية يؤدي إلى انحراف منهجي.
الطريق الصحيح إلى الانضباط المعرفي وضبط المنهج العلمي في العلوم النفسية لا يكون إلا بهذا التوازن بين النقل والعقل والحس، بلا تقديم مطلق لأحدها على حساب البقية. وهذه هي القاعدة التي ينبني عليها المنهج الإسلامي في دراسة النفس والعقل والروح.
أزمة التجريبية في علم النفس الغربي:
أزمة التجريبية في علم النفس الغربي أنها تسعى إلى تطبيق المنهج التجريبي الصلب على علم ليس صلبًا في طبيعته. وهذا الخلل المنهجي ناتج عن وهمٍ أنطولوجي أعمق، تتبناه الفلسفة المادية، التي تنظر إلى كل شيء في الوجود على أنه مادة محضة: فالإنسان مادة، والعقل مادة، والنفس مادة، والدين والتجربة الجمالية والأخلاقية كلها تؤول إلى بنى فيزيائية أو كيميائية.
هذا التصور الأنطولوجي المختزل هو ما أدى إلى خطأ إبستمولوجي في المنهج، حين ظُنّ أن منهج الفيزياء أو البيولوجيا يمكن أن يُنقل كما هو إلى علم النفس. فكانت النتيجة أن أصبح علم النفس الغربي في صورته التجريبية المعاصرة نسخة باهتة، ناقصة، مليئة بالفجوات المعرفية، غير قادرة على الإحاطة بالإنسان كما هو: في إنسانيته، وفي قيمه، وفي بعده الأخلاقي والديني.
وفي مقابل ذلك، تأتي النسخة الإسلامية من التجريبية باعتبارها نسخة مرنة، تُراعي طبيعة كل علم وموضوعه، ولا تفرض عليه أدوات أو مناهج غير مناسبة. فالنفس تُبحث بأدوات تختلف عن أدوات الميكانيكا، ويُراعى في دراستها تداخل البعد الغيبي مع المشاهد، والروحي مع العضوي، والمعنوي مع الحسي.
موقع التجريبية في المنهج العلمي الإسلامي:
من خلال نقاشات طويلة ومتكررة مع عدد من المتخصصين في العلوم النفسية الحديثة، تبيّن أن كثيرًا منهم يصعب عليهم تصوّر كيف يمكن لمنهج علمي أن يجمع بين النقل والعقل والحس، بل ويرون أن هذا يفتح الباب للخرافات، والاجتهادات الفردية غير المنضبطة، والادعاءات غير القابلة للتحقق.
لكن الواقع أن هذه الشبهة ناتجة عن تصورٍ ضيق للتجريبية، وافتراض أن النسخة الغربية من التجريبية النفسية هي النموذج الأعلى، وأن أي انحراف عنها يعني السقوط في اللاتجريب واللاعقل. وهذا وهم إبستمولوجي كبير، لأن النسخة الغربية من التجريبية النفسية ـ في صورتها الحالية ـ نسخة ناقصة وضعيفة، وقد أدت فعليًا إلى نشوء علم مليء بالفجوات، قاصر عن الإحاطة بالإنسان، وعاجز عن تفسير كثير من الظواهر النفسية بشكل شامل ومتسق.
التجريبية في المنظور الإسلامي ليست مرفوضة، ولكنها جزء من منهج علمي شمولي أوسع، يُحكِم العلاقة بين النقل والعقل والحس. وهذا يعني أننا نُوظّف التجريب حيث يكون مجاله مناسبًا، ونمتنع عن إساءة استعماله في ما لا يمكن أن يخضع له. فليس كل ما لا يُقاس باطل، ولا كل ما لا يُرى خرافة.
التوظيف الصحيح للتجريبية هو أن نستعملها في المواضع التي يمكن أن تنتج فيها نتائج مفيدة، بشرط أن تبقى في إطارها المناسب. أما التوظيف الخاطئ، فهو أن نطلب من الحس والتجريب أن يُنتج دليلاً على أمور لا تقع أصلاً تحت مداه، كما في مثال من يُطالب بدليل حسي على وجود الله سبحانه، وهذا مما يخالف العقل والفطرة والسنن الكونية.
ومثله من يُطالب بدليل حسي مباشر على أن “القلب” له دور في العمليات النفسية، في حين أن هذه المطالبة مبنية على سوء فهم لطبيعة الظاهرة، وحدود الأدوات. نحن لا نُطالب بدليل حسي مباشر على ما لا يقع في حيزه، بل نستدل عليه بـ ما يدل عليه حسًّا بطريق غير مباشر: كوجود فجوة معرفية متكررة في تفسير الظواهر النفسية بناءً على الدماغ وحده، كما كشفته بحوث الوعي، ودراسات مقارنة العقل بالذكاء الصناعي، من أن هناك شيئًا لا يمكن محاكاته أو اختزاله بالكامل في المعالجة العصبية أو الحسابية.
مستويات التجريبية:
من الخطأ افتراض وجود نسخة واحدة من “التجريبية”، ومسار واحد للتفكير العلمي، هو خطأ إبستمولوجي صريح، لا نقع فيه في المنظور الإسلامي، بحمد الله. بل نحن نُدرك حدود كل أداة، ونضعها في موضعها، ونبني تصورنا المعرفي على مبدأ تكامل الأدلة، لا على اختزالها.
ومن هنا، فإن المنظور الإسلامي للتجريبية يقوم على توظيفها في الموضع المناسب. أما إذا أُسيء استعمالها، أو فُرضت على مجالات لا تصلح لها، فإنها تؤدي إلى نتائج سلبية، بل إلى تفسيرات مشوهة للواقع.
ففي مجالات التدخلات العلاجية، التجريبية مطلوبة ومفيدة وضرورية. فإذا أردنا أن نثبت أن نوعًا معينًا من العلاج النفسي ـ سواء كان إسلاميًا أو غيره ـ يُؤدي إلى نتائج إيجابية على المرضى، فلا بد من إخضاعه لتجارب محكمة، ومقارنات منهجية. هذا هو موضعها الطبيعي.
لكن في مجالات الماهية، كالبحث في حقيقة النفس، أو طبيعة الروح، أو ماهية القلب، فإن التجريبية هنا ضعيفة الأثر، لأن موضوعاتها خارجة عن أدوات القياس المباشر.
وفي مجالات التفسير، كأسباب الاضطرابات النفسية، أو دوافع السلوك الإنساني، فإن دور التجريبية يكون مساعدًا لا حاسمًا، تمامًا كدور القرائن، فهي تقوّي الفرضية، لكنها لا تكفي وحدها لبناء نظرية مكتملة.
وهذا هو الواقع في علم النفس ذاته: مواضيعه ليست كلها على درجة واحدة من القابلية للتجريب. فبعضها صالح للتجريب المباشر، وبعضها يتطلب تحليلًا فلسفيًا أو مرجعية نقلية، وبعضها لا يُفهم إلا ضمن تصور شامل للإنسان.
ومن هنا نقرر قاعدة إبستمولوجية حاسمة:
الدليل الحسي، مهما بلغت دقته، لا يمكن أن ينفرد أبدًا ببناء علم نفس قوي ومتماسك.
ومن يتوهم أنه يستطيع تأسيس علم نفس علمي متكامل، بالأدلة التجريبية الحسية فقط، فهو واهمٌ منهجيًّا، لأن موضوع النفس بطبيعته يتطلب الجمع بين الأدلة النقلية والعقلية والحسية، على طريقة تكاملية تحفظ لكل دليل مجاله، دون إسقاط ولا تجاوز.
ختامًا:
إذا ثبت عندنا نص شرعي صريح يدل على أن القلب له دور في الإدراك أو الإرادة، فهذا دليل علمي قوي عندنا. ومن يرى أن هذا الدليل خرافة أو غير علمي، فنرجو منه أن يتفهم نظامنا المعرفي.
هذا منهجنا العلمي القوي المتماسك المنضبط. ومن يجد في نفسه صعوبة في قبول هذا المنهج، أو لا يعدّه علميًا، فعليه أن يعلم أننا نراه علميًا، ونراه منهجًا قويًا متماسكًا، بل أكثر اتساقًا من المنهج الذي لا يقبل إلا ما يمكن وزنه وقياسه.
وعليه أن يعلم أيضا أن نقده لا يُلزمنا، لأن أساس الخلاف بيننا ليس في المعلومة، بل في الإطار المعرفي الذي نحتكم إليه أصلًا.
والله أعلم