تخيل أنك أمام لوحة فنية، مليئة بالتفاصيل الدقيقة والألوان المتداخلة، تحاول فهمها عبر التركيز على بقعة واحدة فقط، متجاهلًا الصورة كاملة، هل يمكن بذلك أن تستوعب جمالها الحقيقي؟ بالطبع لا، فكل جزء في اللوحة مرتبط بالآخر ليكون المعنى الكامل.
هذا بالضبط ما يحدث في علم النفس الغربي، حيث يحاول فهم النفس البشرية من خلال أجزاء منفصلة، مادية بحتة، متجاهلًا البُعد المعنوي الذي يشكّل جوهر الإنسان.
هنا تتجلى الاختزالية التي تمثل النظرة المحدودة لعلم النفس الغربي في فهم الإنسان.
في هذا السياق، يبرز د. خالد الجابر كأحد المفكرين الذين سلطوا الضوء على هذا الجزء الناقص في علم النفس الغربي، حيث أكد على أهمية التكامل بين الأبعاد المادية والمعنوية في فهم الإنسان بشكل أشمل وأكثر عمقًا.
لكن ما هي هذه النظرة الاختزالية التي جعلت من الإنسان مجرد مجموعات من التفاعلات الكيميائية والإشارات العصبية؟ وكيف استطاعت أن تقصي أبعاد الروح والقيم والمعاني من المعادلة؟ هذا ما سنتعرف عليه في السطور القادمة.
ما هي الاختزالية؟
الاختزالية هي منهجية في علم النفس الغربي تعتمد على تبسيط الظواهر النفسية المعقدة إلى عناصرها الأساسية، بحيث يتم تفسير السلوك الإنساني عبر العمليات البيولوجية أو الكيميائية أو السلوكية فقط. في هذا التصور، يُعامل الإنسان كمجرد آلة مادية يمكن تحليلها وفهمها عبر دراسة أجزائها المنفصلة. (1)
مثال واقعي:
عندما يصاب شخص بالاكتئاب، يتم تفسير حالته على أنها خلل في مستوى السيروتونين أو الدوبامين في الدماغ، دون النظر إلى مشاعره، معاناته الداخلية، وإيمانه الديني، لكن هل تكفي هذه المعادلات الكيميائية لتفسير الحزن العميق والألم النفسي الذي يعيشه؟ (2)
ولتوضيح هذه النظرة بشكل أكبر، يمكننا استعراض أبرز مظاهر الاختزالية في علم النفس الغربي، والتي تكشف بوضوح كيف تم تقليص مفهوم النفس الإنسانية إلى أبعاد مادية بحتة، متجاهلة عمق الروح والقيم والمعاني
مظاهر الاختزالية في علم النفس الغربي:
- المنهج التجريبي والمادي: يعتمد علم النفس الغربي بشكل كبير على التجربة والملاحظة المادية و يتم دراسة السلوك من خلال ما يمكن قياسه ومراقبته فقط، مثل ردود الفعل الجسدية والمظاهر الخارجية، بينما يتم تجاهل الأبعاد الروحية والمعنوية التي لا يمكن قياسها ماديًا.(1)
- تفسير السلوك البشري عبر الدماغ فقط: في التصور الغربي، العقل هو المسؤول الأوحد عن السلوك، ويتم تجاهل دور النفس والروح والقلب في تكوين الإنسان وتصرفاته. (2)
وأما في المنظور الإسلامي، العقل مرتبط بالقلب والنفس، حيث يؤكد القرآن الكريم على ارتباط التفكير والشعور بالقلب ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج: 46] - فهم السلوك الظاهري فقط دون الغوص في الدوافع العميقة: المدرسة السلوكية كمثال، تركز على الاستجابة للمثيرات دون النظر في النوايا أو الدوافع المعنوية التي قد تقود السلوك.
بينما في المنظور الإسلامي، هناك تركيز على النية والقصد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.” (1)
ومع وضوح هذه المظاهر في النموذج الغربي، يبرز تساؤل جوهري: هل هذا الفهم المجتزأ للنفس الإنسانية قادر فعلًا على تفسير أعمق تعقيداتها النفسية والروحية؟ هنا تظهر إشكالات الاختزالية في علم النفس الغربي، حيث يتضح أن هذه النظرة المادية البحتة قد عجزت عن الإحاطة الكاملة بمعاناة الإنسان وتجربته الوجودية.
إشكالات الاختزالية في علم النفس الغربي:
- إهمال البُعد الروحي والمعنوي: الإنسان ليس مجرد كائن بيولوجي، بل يمتلك روحًا ونفسًا، وهذه العناصر هي التي تمنحه القدرة على التفكر والتأمل والشعور بمعاني عميقة تتجاوز حدود المادة، وأما في علم النفس الإسلامي، يُنظر إلى الإنسان على أنه كيان مركب يتألف من أبعاد متكاملة
فالروح تمثل النفخة الإلهية التي تُضفي على الإنسان الحياة والحيوية. والنفس تشمل المشاعر والإرادات التي تدفع بالرغبات والتوجهات. والعقل أداة الإدراك ومركز التفكر والتدبر. والقلب مركز الإيمان والإرادة ومحور التزكية والتطهير.
هذا التصور الشامل يجمع بين المكونات المادية والمعنوية للإنسان في إطار متوازن، بعيدًا عن النظرة الاختزالية التي تقتصر على الأبعاد المادية فقط، متجاهلة عمق الروح ودور النفس في تشكيل السلوك والمعاني الوجودية.
- قصور في تفسير السلوك الإنساني الكامل: الاختزالية تفسر السلوك من زاوية ضيقة جدًا؛ فهي تركز على جوانب مادية فقط، متجاهلة تأثيرات الإيمان والروح والمعاني الوجودية.
بينما في المنظور الإسلامي، يكون السلوك الإنساني ناتج عن تفاعل بين الروح والنفس والقلب والعقل، وليس مجرد استجابة لمؤثرات مادية .
- إغفال الأخلاق والقيم : في النظريات الغربية، يُنظر إلى السلوك كاستجابة مادية بحتة، دون النظر إلى البعد الأخلاقي أو القيم، بينما في الإسلام الأخلاق هي جوهر السلوك، والنية جزء أساسي في التقييم النفسي، يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق.” (1)
ما هو البديل عن الاختزالية؟
في خضم هذه الإشكالات التي تحد من عمق التفسير النفسي في النموذج الغربي، تبرز الحاجة إلى رؤية أعمق وأكثر شمولًا لفهم النفس الإنسانية، وهنا يبرز البديل الإسلامي الذي يجمع بين الجوانب المادية والمعنوية، ليقدم نموذجًا أكثر توازنًا وشمولية في تفسير السلوك الإنساني، ولتحقيق هذا التوازن المنشود، يقوم النموذج الإسلامي على ركائز أساسية تشمل:
- التكامل بين الروح والنفس والعقل والقلب: فالإنسان في التصور الإسلامي ليس مجرد كتلة مادة فقط، بل هو كائن مركب من روح وجسد ونفس وعقل وقلب، وكل هذه الأبعاد تتكامل لتكوين شخصيته وسلوكه. (2)
- التوازن بين المعرفة المادية والمعنوية وذلك لأن الإسلام يعتمد على ثلاث ركائز في المعرفة:
الوحي: مرجعية معنوية وعقلية تستكمل الفهم الإنساني، والعقل: وسيلة للتفكر والتدبر، والحس: مصدر التجربة والمعرفة الحسية. (1) - التربية والتزكية: في علم النفس الإسلامي، تزكية النفس وتطهيرها من الأهواء والغرائز الدنيئة يُعتبر جزءًا أساسيًا من الصحة النفسية، قال تعالى﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا()وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9-10]
نحو نظرية نفسية شاملة.
في ظل السعي لفهم أعمق للنفس البشرية، تبدو الحاجة ملحة لتجاوز الاختزالية التي قيدت علم النفس الغربي في إطار مادي صرف، متجاهلة الروح والقيم والمشاعر. من هنا، أسس د. خالد الجابر “النظرية النفسية الشاملة”، التي تعيد التوازن المفقود بفهم الإنسان ككيان متكامل من روح، ونفس، وعقل، وقلب، حيث تتفاعل هذه الأبعاد بتناغم لتشكل الوجود الإنساني بأكمله، متجاوزة بذلك النظرة الجزئية لعلم النفس الغربي
ترتكز هذه النظرية على أن الإنسان ليس مجرد جسد مادي فقط، بل يحمل في داخله طاقة معنوية وروحية تمنحه عمقًا أبعد من التفسيرات المادية البحتة، وهنا يأتي البرادايم الإسلامي ليؤكد على هذا التكامل في إشارة إلى أن الفهم الحقيقي للنفس يتطلب رؤية تتجاوز حدود المادة إلى عمق الروح ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]
ولمن يريد التعمق في جوهر هذه الرؤية المتكاملة، فإن متابعة إصدارات النظرية عبر موقعها الرسمي ودوراتها تقدم فرصة فريدة لاستكشاف أبعادها الأكثر عمقا، والكشف عن أسرارها التي تثري الفهم الإنساني وتوسع آفاقه.
المراجع :
- نظرية في علم النفس الإسلامي د. خالد بن حمد الجابر
- محاضرة تعريف بالنظرية النفسية الشاملة في علم النفس الإسلامي مع د.خالد بن حمد الجابر