احدث الإشعارات

.مراجعة نقدية لبحث: “هل يمثل الغرب المتعلم والصناعي والغني والديمقراطي كل العالم الناس الأكثر غرابة في العالم؟”: خطوة لفهم تحيز علم النفس الغربي.

إن الإصرار على تقديم "الإنسان الغربي" كمقياس معياري للطبيعة البشرية يُعدّ فرضية لا علمية، تتجاهل المعطيات العلمية والثقافية والدينية الكبرى، وتُقصي إمكانات بناء نماذج بديلة قد تكون أكثر صدقًا وشمولًا. ولهذا، فإن تطوير نظرية نفسية إسلامية قائمة على مرجعية الوحي، ونابعة من واقع المجتمعات الإسلامية وأصولها، بات ضرورة علمية ومعرفية.

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

أمّا بعد

الملخص:

يتناول هذا البحث مراجعة نقدية لمنهجية التعميم في علم النفس الغربي المعاصر، من خلال تحليل إحدى أبرز الدراسات المؤثرة في هذا المجال، وهي دراسة بعنوان “هل يمثل الغرب المتعلم الصناعي الغني الديمقراطي كل العالم: الناس الأكثر غرابة في العالم؟” التي أعدّها هنريتش وزملاؤه. تستند الدراسة إلى فرضية أن أغلب الأبحاث النفسية تُجرى على شريحة سكانية ضيّقة تُعرف باسم الـ WEIRD(غربية، متعلّمة، صناعية، غنية، ديمقراطية)، والتي لا تمثّل البشرية جمعاء، بل تُعد استثناءً ثقافيًّا وسلوكيًّا.

يسلط البحث الضوء على الخلل المنهجي الناتج عن الاعتماد المفرط على هذه العينات، وما يترتّب عليه من تعميمات خاطئة في فهم النفس الإنسانية. ويُبرز التحيّزات المعرفية والسلوكية لدى المجتمعات الغربية مقارنةً بالمجتمعات غير الغربية، لا سيما الإسلامية، مع بيان الفروق النوعية في الإدراك، ومفهوم الذات، والتفكير الأخلاقي، وغير ذلك.

انطلاقًا من النقد الغربي الموجَّه لعلم النفس، تدعو الباحثة إلى ضرورة إدراك تحيّز هذا العلم وصبغته الاختزالية، وعدم صلاحيته لتعميم نتائجه على الإنسانية جمعاء. ومن هذا المنطلق، تُؤكّد الحاجة إلى تجاوز النموذج النفسي الغربي، والسعي إلى بناء نظرية إسلامية شاملة تراعي خصوصية المسلم، وتستند إلى الرؤية القرآنية والهدي النبوي.

المقدمة:

تُعدّ العلوم النفسية من أكثر الحقول المعرفية تأثيرًا في تشكيل التصوّرات المعاصرة عن الإنسان وسلوكه. وقد شهد علم النفس الغربي، بوجه خاص، تطورًا ملحوظًا خلال القرن العشرين، مما عزّز مكانته كمرجعية عالمية في دراسة النفس البشرية. غير أن هذا النموذج المهيمن أصبح محل مساءلة إبستمولوجية ومنهجية متزايدة في العقود الأخيرة، لا سيما فيما يتعلّق بقدرته على تمثيل التنوّع الثقافي والأنثروبولوجي للبشرية جمعاء.

فقد كشفت دراسات متعددة أن معظم الأبحاث النفسية المعاصرة ترتكز على عينات بشرية محدودة، تنتمي إلى مجتمعات توصف بأنها غربية، متعلّمة، صناعية، غنية، وديمقراطي، ما يعرف اختصارا بالـ WEIRD، وهو ما ينتج عنه تحيّز عيَّني ومنهجي يؤدي إلى تعميمات معرفية غير مبرّرة. وقد بلغ هذا النقاش ذروته مع صدور الدراسة المرجعية “هل يمثّل الغرب المتعلّم الصناعي الغني الديمقراطي (WEIRD) كل العالم؟: الناس الأكثر غرابة في العالم” التي أعدّها هنريتش وزملاؤه (Henrich, Heine, & Norenzayan, 2010 ). وهيي دراسة تحليلية نقدية منهجية (Review & Critique Study)، تستعرض نتائج ومناهج البحث في علم النفس التجريبي، مع اعتماد واسع على المقارنات الثقافية المتعددة. وقد بيّنت أن عيّنات الـ WEIRD  تُظهر خصائص نفسية وسلوكية استثنائية على المستوى العالمي، مما يضعف من صلاحية بناء نظرية نفسية عالمية اعتمادًا عليها وحدها. إذ أظهرت التجارب الإدراكية والمعرفية والاقتصادية أن أفراد هذه العيّنات يتصرفون بشكل يختلف جذريًا، لا كمّيًا فقط، عن نظرائهم في مجتمعات تقليدية أو غير غربية، مما يجعلهم من أسوأ القواعد الممكنة للتعميم “Worst Populations for Generalization“.

تنطلق الباحثة في هذا البحث من الدراسة المرجعية التي أعدّها هنريتش وزملاؤه، ساعيةً إلى تفكيك بنيتها النقدية واستثمار خلاصاتها في مراجعة الأسس المعرفية والمنهجية التي يقوم عليها علم النفس الغربي، مع إبراز الحاجة إلى نموذج معرفي (براديم- paradigm ) بديل يتمثّل في نظرية إسلامية شاملة تُوفّر إطارًا تكامليًا لفهم النفس، يستوعب الأبعاد الإيمانية والاجتماعية التي غيّبتها النماذج الغربية السائدة.
وفي ضوء ذلك، يطرح البحث عددًا من الإشكاليات المحورية، من أبرزها: إلى أي مدى تُعبّر نتائج علم النفس الغربي عن الإنسان في شموليته؟ وما حدود التحيّز العيَّني والمنهجي في إنتاج معرفة يُراد تعميمها عالميًا؟ وهل بوسع المجتمعات الإسلامية، بما تحمله من منظومة قيم ومفاهيم خاصّة، أن تكتفي بتلقّي العلم النفسي الغربي، أم أن الحاجة تدعو إلى تأسيس علم نفس يستند إلى الوحي ويُسْتَلْهَمُ من الفطرة الإلهية، ويتفاعل بعمق مع سياقاتها الإيمانية والثقافية والاجتماعية؟

ضيق قاعدة البيانات السلوكية وافتراضُ عُمومية النتائج:

تشير الأدبيات في ميدان العلوم السلوكية إلى وجود انحياز منهجي بارز في اختيار العينات البحثية؛ إذ تعتمد غالبية الدراسات النفسية المعاصرة على بيانات مستمدة من مجتمعات غربية صناعية، ولا سيما من الولايات المتحدة الأميركية. فقد كشفت مراجعة إحصائية أن 96٪ من المشاركين في الأبحاث النفسية بين عامي 2003 و2007 ينتمون إلى دول غربية، رغم أن سكان هذه الدول لا يشكلون سوى 12٪ من سكان العالم، ما يعكس فجوة تمثيلية واضحة.

وغالبًا ما تتكوّن هذه العينات من طلاب الجامعات، خاصة طلاب علم النفس، وهم يمثلون شريحة عمرية وتعليمية محدودة، لا تعكس التنوع داخل مجتمعاتهم نفسها. وتشير الدراسات إلى أن الطالب الجامعي الأميركي أكثر احتمالًا للمشاركة في التجارب النفسية بآلاف المرات مقارنة بأفراد من مجتمعات غير غربية، ما يُضعف من صلاحية تعميم النتائج على البشرية جمعاء.

ولا تقتصر الإشكالية على الجانب الديموغرافي، بل تمتد إلى تحيّز ثقافي ومعياري يُنتج تصورًا نفسيًا متمركزًا حول الإنسان الغربي: الفردي، المتعلم، الغني، الصناعي، الديمقراطي. ورغم ضيق هذا النموذج من حيث التمثيل، إلا أنه لا يزال يشكل مرجعية سائدة في بناء كثير من النظريات النفسية المعاصرة.

وقد أشار هنريتش وزملاؤه إلى أن هذا التحيز البنيوي يكشف عن أزمة إبستمولوجية أعمق في علم النفس الغربي، تتعلّق بمحدودية الإطار المعرفي الذي تُبنى عليه مفاهيمه، وعجزه عن استيعاب التنوّع الروحي والثقافي الذي يُميز المجتمعات الإنسانية.

ويُعدّ التعميم غير المنضبط إحدى أبرز الإشكالات المعرفية في أدبيات هذا العلم؛ إذ تُستخلص استنتاجات كونية من بيانات مستندة إلى عينات ضيّقة، دون إخضاع هذه الاستنتاجات لفحص منهجي معمّق يراعي التعدد الثقافي والديني للنفس البشرية.

التباين بين المجتمعات الصناعية والمجتمعات التقليدية صغيرة النطاق: 

تكشف الدراسات المقارنة بين المجتمعات الصناعية الحديثة والمجتمعات التقليدية صغيرة النطاق عن تباينات نوعية في العمليات النفسية الأساسية، ما يثير شكوكًا جدية حول صلاحية تعميم نتائج الأبحاث الغربية على البشرية جمعاء. فعلى الرغم من تقديم العديد من الوظائف النفسية، كالإدراك والتعاون والتفكير، على أنها كونية، إلا أن الأدلة التجريبية تشير إلى تأثرها العميق بالسياقات الثقافية والمعيشية.

فعلى سبيل المثال، أظهرت تجارب “مولر-لاير” (Müller-Lyer Illusion) في الإدراك البصري أن طلاب الجامعات الأمريكيين أكثر تأثرًا بالخداع البصري من مجتمعات كالصيادين في إفريقيا، وهذا يُستنتج منه أن الإدراك البصري ليس عالميًا بالكامل، بل يتشكل جزئيًا بالثقافة والبيئة. وفي ميدان السلوك الاقتصادي، كشفت ألعاب مثل “المُلتيماتوم” (Ultimatum Game) و”الديكتاتور” (Dictator Game) أن مفاهيم العدالة والتعاون تتباين بين المجتمعات الصناعية والمجتمعات المحلية التي تحكمها معايير السمعة والتفاعل اليومي بين الأفراد. 

كما بيّنت دراسات في التفكير البيولوجي الفطري والإدراك المكاني أن التصنيفات والتوجهات تختلف جذريًا بين الأطفال في البيئات الحضرية وأقرانهم في البيئات الطبيعية، بسبب الفروقات في الخبرة والتنشئة واللغة.

تتوسع هذه التباينات لتشمل الميل إلى المخاطرة، وتصوّر الزمن، وفهم الموت، وتمييز الانتماءات الاجتماعية، ما يدل على أن السلوك الإنساني يتشكل ضمن أُطر ثقافية متباينة، لا ضمن نموذج واحد يُفترض فيه العالمية. يستنج هنريتش وزملاؤه أنه ورغم وجود بعض القواسم المشتركة، كإدراك الألوان والمشاعر الأساسية، المجتمعات الصناعية تُعد حالة متطرفة على المستوى الإحصائي والسلوكي، ما يجعل تعميم نتائجها دون مراجعة نقدية خطأً منهجيًا جسيمًا.

التباين بين المجتمعات الغربية وغير الغربية:

تُظهر المقارنات الثقافية أن المجتمعات الغربية، المصنّفة ضمن الـ WEIRD تعبّر عن أنماط نفسية وإدراكية متميّزة عن المجتمعات غير الغربية، مما يطرح إشكاليات معرفية تجاه فرضية “عالمية” النموذج الغربي.

في نطاق التعاون والعقاب، تميل المجتمعات الغربية إلى ما يُعرف بـ”العقاب الإيثاري”، الذي يدعم الالتزام بالمعايير حتى على حساب المصلحة الشخصية، بينما تُظهر مجتمعات تقليدية أنماطًا محلية تُراعي التفاعل والسياق الاجتماعي.

أما مفهوم الذات، فيتوزع بين نموذج فردي مستقل في الثقافات الغربية، مقابل تصور مترابط في المجتمعات غير الغربية، يُعَرِّف الفرد من خلال علاقاته وواجباته الاجتماعية.

وفي أساليب التفكير، تسود في الغرب مقاربات تحليلية تُركّز على السمات المجردة، بينما تعتمد الثقافات الأخرى أساليب شمولية تُعطي أولوية للسياق والعلاقات. وينسحب هذا التباين أيضًا على المنظومات الأخلاقية، حيث ترتكز الأخلاق الغربية على العدالة والحقوق الفردية، في مقابل نماذج قيمية في مجتمعات أخرى تشمل القيم التعبدية والانضباط الأخلاقي والاجتماعي.

يرى هنريتش وزملاؤه أن هذه الفروقات تكشف عن تنوّع بنيوي في النفس البشرية، لا عن استثناءات إحصائية، مما يُحتّم إعادة النظر في صلاحية النموذج النفسي الغربي بوصفه معيارًا كونيًّا. 

الاستثنائية الأميركية داخل الغرب:

رغم تصنيف الولايات المتحدة ضمن مجتمعات الـ WEIRD، إلا أن معطيات متعددة تُظهر أنها تمثّل حالة متطرفة حتى داخل هذا الإطار الغربي. فهي تتصدّر المؤشرات العالمية في الفردانية، والثقة بالمؤسسات بدل العلاقات الاجتماعية، والعمل لساعات طويلة، إلى جانب معدلات مرتفعة في الجريمة، والطلاق، وعدم المساواة الاقتصادية، ما يعكس نموذجًا ثقافيًّا قائمًا على الاستقلال والتنافس والحقوق الفردية.

في السياق المعرفي، تُظهر التجارب النفسية أن الأميركيين، وخصوصًا طلاب الجامعات، يميلون إلى التفكير التحليلي، وتفضيل الخيارات الواسعة، والعقاب الصارم في ألعاب السلع العامة (Public Goods Games)، مع ضعف في دمج العلاقات الاجتماعية داخل بيئات العمل. 

هذا التحيّز المزدوج، من حيث الانتماء الجغرافي والثقافي، ومن حيث العينة المستخدمة داخل المجتمع الأميركي، يُقوّض بقوة صلاحية تعميم نتائج الدراسات النفسية الغربية على المجتمعات الأخرى، ويؤكد الحاجة إلى إعادة هندسة المفاهيم والمنهجيات في ضوء تنوّع الطبيعة البشرية عالميًا.

التباين بين “الأميركي النموذجي” وشرائح المجتمع الأميركي الأخرى: 

تشير الأدبيات النفسية الحديثة إلى انحراف عيّني واضح داخل المجتمع الأميركي نفسه، يتمثّل في الاعتماد شبه الحصري على طلاب الجامعات في الأبحاث النفسية، رغم أنهم يُشكّلون شريحة سكانية ضيّقة ذات خصائص سلوكية وفكرية متطرفة مقارنة ببقية أفراد المجتمع الأمريكي. فهم يُظهرون معدلات أعلى في الفردانية، وتفضيلًا أكبر للتفسير الذاتي للسلوك، واعتمادًا شبه حصري على أخلاقيات الاستقلال، في مقابل حضور أقوى لأخلاقيات الجماعة والقداسة لدى غير الجامعيين.

كما تسجّل هذه الفئة مستويات أدنى في مؤشرات النزعة الاجتماعية، مثل الإيثار، والثقة، والتعاون، وفق ما أظهرته دراسات السلوك الاقتصادي. وتُظهر الفروق النمائية أن أثر البيئة المشتركة لدى الشرائح ذات الدخل المنخفض يتجاوز التأثير الجيني في تكوين القدرات المعرفية، مما يعزّز أهمية السياق الاجتماعي في تفسير السلوك.

أما على صعيد التحولات الجيلية، فقد رُصد منذ منتصف القرن العشرين تصاعدٌ في الفردانية، وتضخم في تقدير الذات، وتراجع في الحاجة إلى التقبّل الاجتماعي، إلى جانب ارتفاع ملحوظ في معدلات الذكاء وفق تأثير “فلِن” (Flynn Effect) ورغم وجود بعض نقاط التشابه بين الطلبة وغيرهم، فإن الخلاصة التراكمية، حسب هنريتش وزملائه تُشير إلى أن طلاب الجامعات الأميركيين يُمثّلون «حالة متطرفة داخل مجتمع متطرف» وهو ما يُقوّض بشكلٍ جوهري صلاحية تعميم نتائج هذه العينة، لا على البشرية جمعاء فحسب، بل على المجتمع الأميركي ذاته.

من الإنسان الـ WEIRD إلى الإنسان المسلم: قصور النموذج الغربي وتأسيس البرادايم الإسلامي:

تكشف مراجعة هنريتش وزملائه عن خلل إبستمولوجي بنيوي في علم النفس الغربي، يتمثل في الافتراض الضمني بأن الإنسان الـ WEIRD يُمثّل الطبيعة البشرية، وأن ما يُستنتج من سلوكياته قابل للتعميم على البشرية جمعاء. ويستند هذا الافتراض إلى أسس منهجية هشّة، أبرزها الاعتماد المفرط على عينات ضيّقة كطلاب الجامعات في المجتمعات الغربية، إضافةً إلى تركيز البحوث على موضوعات ثقافية محلية مثل مركزية الفرد وتعزيز الذات، مع إغفال الجوانب الدينية والعلائقية والاجتماعية التي تشكل جوهرًا في ثقافات أخرى.

وقد بيّنت الأدلة التجريبية أن هذه الفئة تُظهر فروقًا نوعية في الإدراك والانتباه ومفاهيم العدالة والأخلاق، ما يُضعف صلاحية تعميم النتائج خارج سياقها الثقافي. كما تُظهر دراسات الإدراك أن التفسير النفسي الغربي يتجاهل التنوع الثقافي في آليات التكيّف، ويفترض نموذجًا موحّدًا للوظائف النفسية، الأمر الذي يكشف عن قصور معرفي في الأساس النظري.

إن هذا الواقع يُقوّض فرضية الكونية النفسية للنموذج الغربي، ويكشف عن هيمنة مقاربة اختزالية تُقصي البُعد الروحي والديني والاجتماعي للإنسان. والمفارقة أن هذا النموذج، رغم ضيقه الثقافي، يُقدّم بوصفه مرجعية معيارية للإنسانية جمعاء، في حين أن أصحابه، كالأميركيين مثلًا، يُعدّون حالة متطرفة حتى ضمن المجتمعات الغربية ذاتها.

وانطلاقًا من هذا النقد المعمّق، تفرض المعطيات العلمية نفسها باتجاه ضرورة إصلاح إبستمولوجي جذري في علم النفس. وليس هذا الإصلاح مجرّد توسعة للعيّنات أو تنويع للسياقات، بل يتطلّب تفكيك البراديم الغربي ذاته، وتطوير نماذج بديلة أكثر شمولًا وتمثيلًا لواقع الإنسان في تنوّعه الوجودي والثقافي. ومن هذا المنطلق، تبرز الحاجة الموضوعية إلى بلورة إطار نظري بديل، يستوعب التنوّع الثقافي والديني، ويُراعي الخصوصيات النفسية والاجتماعية التي تميّز المجتمعات المختلفة، وعلى رأسها المجتمعات الإسلامية. 

وفي هذا السياق، يمتلك الباحث المسلم مشروعية علمية متكاملة في السعي إلى براديم يُعبّر عن خصوصية الإنسان المسلم، بما هو كائن مركّب من قلب وعقل وجسد وروح، ومتجذّر في منظومة من القيم الدينية والسلوكية التي يصعب اختزالها ضمن التصور المادي-الفرداني للنموذج الغربي.

إن الإصرار على تقديم “الإنسان الغربي” كمقياس معياري للطبيعة البشرية يُعدّ فرضية لا علمية، تتجاهل المعطيات العلمية والثقافية والدينية الكبرى، وتُقصي إمكانات بناء نماذج بديلة قد تكون أكثر صدقًا وشمولًا. ولهذا، فإن تطوير نظرية نفسية إسلامية قائمة على مرجعية الوحي، ونابعة من واقع المجتمعات الإسلامية وأصولها، بات ضرورة علمية ومعرفية. وتتميّز هذه النظرية بأنها تُعيد الاعتبار للبعد الروحي، وتُقارب النفس البشرية من خلال منظومة إيمانية-أخلاقية، تنظر إلى الإنسان نظرة تكاملية لا تفكيكية، وتُسهم في سدّ الفراغ النظري الذي لم يُفلح النموذج الغربي في ملئه.

وإذا كان مقال هنريتش وزملائه يختتم بنداءٍ صريح لإعادة بناء علم النفس على أسسٍ أكثر تمثيلًا وتعدديّة، فإن من بين أهم البدائل الممكنة: نظرية نفسية إسلامية تُقدَّم لا كمجرد موقف ثقافي، بل كمشروع علمي متكامل، يسعى إلى فهم النفس البشرية المسلمة كما هي في سياقاتها الإيمانية والحضارية والثقافية، لا كما يُراد لها أن تكون وفق مقاييس المركزية الغربية.

خاتمة:

تمثّل دراسة هنريتش وزملائه نداءً علميًّا ومنهجيًّا لإعادة النظر في الأسس الإبستمولوجية التي يقوم عليها علم النفس المعاصر. فلا يمكن بناء نظرية شاملة للطبيعة البشرية اعتمادًا على عينات ضيّقة من طلاب الجامعات في مجتمعات صناعية غربية؛ إذ إن هذه الفئة تُعدّ استثناءً معرفيًّا وسلوكيًّا لا يصلح أساسًا للتعميم، وهو ما يكشف عن تحيّز منهجي عميق.

وقد أظهر المقال، من خلال تجميع أدلة تجريبية عبر تخصّصات متعددة، أن الإشكال يتجاوز حدود العينة إلى أزمة معرفية بنيوية تؤثّر في صياغة المفاهيم النفسية ذاتها. ومن هنا، يُطرح أمام الباحثين خياران: إما الاعتراف بمحدودية النموذج الغربي داخل سياقه الثقافي، أو السعي إلى إصلاح جذري يعيد تأسيس علم النفس على قاعدة أكثر شمولًا، تُراعي التنوّع الثقافي والديني والاجتماعي للنوع الإنساني.

وتزداد أهمية هذه الدراسة لما تحظى به من مصداقية علمية رفيعة، فقد نُشرت في مجلة Behavioral and Brain Sciences  المصنّفة ضمن الدوريات الدولية المؤثرة (Q2)، مع عدد اقتباسات تجاوز 17,000، ما يجعلها مرجعًا تأسيسيًّا في نقد فرضية الكونية النفسية.

وفي ضوء هذه المراجعة، تبرز الحاجة الإبستمولوجية إلى تطوير بارادايم نفسي إسلامي لا بوصفه ردًّا أيديولوجيًا، بل باعتباره مشروعًا علميًّا شموليًّا، يستمد مرجعيته من الوحي، ويتكئ على تراث علمي إسلامي عميق، ويطّلع على منجزات البحث المعاصر بروح نقدية واعية.

إن ما يُميز هذا البارادايم هو مركزية البعد الإيماني في فهم النفس، ورؤيته المتكاملة للإنسان بوصفه كائنًا مركبًا من روح، وعقل، وقلب، وجسد، ونفس، وهو ما يمنحه قدرة تفسيرية وعلاجية أوسع من الاختزالات المادية والفردانية التي تطبع كثيرًا من النظريات النفسية السائدة. وعليه، فإن بناء نظرية نفسية إسلامية شاملة لا يُعدّ مجرد ضرورة فكرية، بل هو مسؤولية علمية ملقاة على عاتق الباحثين المسلمين، لإعادة تشكيل المعرفة النفسية بما يُنصف الإنسان المسلم، ويعكس خصوصياته العقدية والثقافية والاجتماعية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رابط المقال:

Henrich, J., Heine, S. J., & Norenzayan, A. (2010). The weirdest people in the world?. Behavioral and brain sciences, 33(2-3), 61-83.

https://www2.psych.ubc.ca/~henrich/pdfs/WeirdPeople.pdf

ـــــــ

مؤلفو البحث موضوع التحليل:

البروفيسور جوزيف باتريك هنريتش (Joseph Patrick Henrich) من أبرز علماء الأنثروبولوجيا والتطور الثقافي في العالم المعاصر. يشغل حاليًا منصب ب أستاذ ورئيس قسم البيولوجيا التطورية البشرية في جامعة هارفارد، حيث يقود أبحاثًا عابرة للتخصصات تجمع بين علم النفس، الأنثروبولوجيا، الاقتصاد التطوري، وعلم الأحياء. شر هنريتش أكثر من 345 بحثًا علميًا وشارك في تأليف عدة كتب مؤثرة.

البروفيسور ستيفن ج. هاين (Steven J. Heine) من أبرز علماء النفس الثقافي في العالم، وهو أستاذ في جامعة كولومبيا البريطانية في كندا. كرّس حياته الأكاديمية لفهم كيف تؤثر الثقافة في تشكيل أفكارنا وسلوكياتنا، وخصوصًا الفروق بين الثقافات الشرقية والغربية في قضايا مثل احترام الذات، التحفيز، والتفسير الشخصي للأحداث. نشر هاين أكثر من 149 بحثًا علميًا وله تأثير هائل في مجاله، حيث تجاوزت عدد الاستشهادات بأعماله 54,000 استشهاد، مما يجعله من أكثر الباحثين تأثيرًا في علم النفس. 

البروفيسور آرا نورنزايان هو أستاذ علم النفس الثقافي والاجتماعي في جامعة كولومبيا البريطانية بكندا، ويُعد من أبرز الباحثين في فهم العلاقة بين الدين والثقافة والسلوك البشري. تركّز أبحاثه على كيفية تطور المعتقدات الدينية ودورها في بناء التعاون بين الأفراد عبر المجتمعات الكبرى، حيث يرى أن الأديان التي تؤمن بوجود «آلهة عظيمة» ساعدت في تنظيم المجتمعات وتقليل النزاعات الداخلية. نشر نورنزايان أكثر من 100 بحث علمي في مجاله وله تأثير عالمي واسع، إذ تُستشهد أعماله آلاف المرات، وخاصة كتابه الشهير Big Gods  الذي يعتبر مرجعًا أساسيًا لفهم دور الدين في تطور المجتمعات البشرية. حصل نورنزايان على عدة جوائز مرموقة مثل زمالة الجمعية الملكية الكندية وجائزة الابتكار النظري، مما يعكس مكانته كأحد العقول الرائدة في علم النفس الثقافي.

ـــــــ

الترجمة والتحليل:

الدكتورة ليلى الشريف: استشارية طب نفس أطفال ومراهقين، بروفيسورة مشاركة سابقة بكلية الطب بصفاقس، تونس، مقتدرة في العلاج السلوكي المعرفي، نشرت عشرين بحثا علميا في مجالات علمية عالمية محكمة، حاصلة على بكالوريوس العلوم الإسلامية تخصص القرآن الكريم وعلومه، جامعة المدينة العالمية، باحثة في العلم النفسي الإسلامي.

ملخص سريع

إن الإصرار على تقديم "الإنسان الغربي" كمقياس معياري للطبيعة البشرية يُعدّ فرضية لا علمية، تتجاهل المعطيات العلمية والثقافية والدينية الكبرى، وتُقصي إمكانات بناء نماذج بديلة قد تكون أكثر صدقًا وشمولًا. ولهذا، فإن تطوير نظرية نفسية إسلامية قائمة على مرجعية الوحي، ونابعة من واقع المجتمعات الإسلامية وأصولها، بات ضرورة علمية ومعرفية.

إسهامات الكاتب الأخرى

إن الإصرار على تقديم "الإنسان الغربي" كمقياس معياري للطبيعة البشرية يُعدّ فرضية لا علمية، تتجاهل المعطيات العلمية والثقافية

تستثمر الباحثة النقد الغربي لعلم النفس لتناقش الإمكانية المعرفية لتأسيس علم نفس إسلامي يستمد مرجعيته من الوحي، مع

تتبنى هذه الورقة البحثية إطارًا منهجيًا لتفكيك الاستعمار عبر استقصاء الأساليب التي تهيمن بها القوى الاستعمارية على علم

رغم أن علم النفس الغربي هو المسيطر أكاديميًا، إلا أن هناك نقدًا قويًا من داخل الغرب نفسه، سواء

موضوعات ذات صلة

إن الإصرار على تقديم "الإنسان الغربي" كمقياس معياري للطبيعة البشرية يُعدّ فرضية لا علمية، تتجاهل المعطيات العلمية والثقافية

إن الإصرار على تقديم "الإنسان الغربي" كمقياس معياري للطبيعة البشرية يُعدّ فرضية لا علمية، تتجاهل المعطيات العلمية والثقافية

إن الإصرار على تقديم "الإنسان الغربي" كمقياس معياري للطبيعة البشرية يُعدّ فرضية لا علمية، تتجاهل المعطيات العلمية والثقافية

النشرة البريدية

مركز بحثي يُعنى بقضـــــــــــــــــايا الفكر والواقع، ويرفد الساحة الثقافية العربيّة بمعالجــــــــــــــــــات بحثيّة رصــــــــــينة، يسعى المركز الساحة الثقافية العربيّة

ترجمات ذات صلة

إن الإصرار على تقديم "الإنسان الغربي" كمقياس معياري للطبيعة البشرية يُعدّ فرضية لا علمية، تتجاهل المعطيات العلمية والثقافية

تستثمر الباحثة النقد الغربي لعلم النفس لتناقش الإمكانية المعرفية لتأسيس علم نفس إسلامي يستمد مرجعيته من الوحي، مع

تتبنى هذه الورقة البحثية إطارًا منهجيًا لتفكيك الاستعمار عبر استقصاء الأساليب التي تهيمن بها القوى الاستعمارية على علم

رغم أن علم النفس الغربي هو المسيطر أكاديميًا، إلا أن هناك نقدًا قويًا من داخل الغرب نفسه، سواء

Scroll to Top