بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أما بعد:
ملخص
يتناول هذا البحث تحليلًا نقديًا لدراسة بعنوان: “علم النفس: عملاق بأقدام من طين”، للباحث أندريا زاجاريا ومساعديه. يستعرض البحث هشاشة البنية النظرية لعلم النفس المعاصر، ويسلط الضوء على التناقضات القائمة بين المناهج والمدارس النفسية الغربية، مما يؤدي إلى صعوبة بلورة إطار معرفي (بارادايم) موحّد. وتستثمر الباحثة النقد الغربي لعلم النفس لتناقش الإمكانية المعرفية لتأسيس علم نفس إسلامي يستمد مرجعيته من الوحي، مع الحفاظ في الوقت ذاته على الانفتاح تجاه المنجزات العلمية الحديثة، ما دامت لا تتعارض مع المقاصد الشرعية. وتقترح الباحثة أن الانطلاق من القرآن الكريم والسنة النبوية يمكن أن يوفّر بارادايم موحّدًا وشاملًا، يعالج أوجه القصور في النماذج الغربية، ويتناول الإنسان في جميع أبعاده: الروحية، والعقلية، والنفسية، والجسدية.
المقدّمة
يتّسم التوجه السائد في علم النفس الغربي المعاصر، بالاعتماد على مرجعية مادية تُقصي الأبعاد الروحية والدينية. ونظرًا لتأثير هذا الفكر على المؤسسات الأكاديمية عالميًا، تُقدَّم نظرياته كأنها تفسيرات نهائية، رغم كونها اجتهادات قابلة للنقد. وقد أدى ذلك إلى تبنّيها بشكل غير نقدي في المجتمعات الإسلامية، رغم تعارض بعض مفاهيمها مع الرؤية الإسلامية المتكاملة للإنسان (جسد، روح، عقل، نفس). لذا، فإن أي مشروع معرفي بديل يجب أن يبدأ بنقد منهجي لأسس هذا النموذج، لا بغرض الرفض، بل هو ممارسة علمية تُحلل وتُقيّم النظريات وفقًا لمعايير معرفية دقيقة، بهدف كشف الثغور، وتطوير نماذج أكثر شمولًا وإنصافًا للإنسان في أبعاده المختلفة. يُشار إلى أن هذا النقد تزايد في صفوف المفكرين الغربيين أنفسهم.
وفي هذا السياق، تناولت الدراسة تحليلًا لعملٍ بحثيٍّ لأندريا زاجاريا ومساعديه، بعنوان: “علم النفس: عملاق بأقدام من طين”. الباحثة لن تعرض البحث بأكمله، والمرجع وتصحيحه موجودان أسفله لمن أراد الاطلاع. سيتم عرض انتقادات واقتراحات زاجاريا ومساعديه والتعليق عليها للاستفادة من النقد الغربي الغربي لعلم النفس.
ضعف الأساس المفاهيمي لعلم النفس
♦ يرى زاجاريا ومساعدوه أن علم النفس علم غير تقليدي، يتميز بغياب تحديد دقيق لموضوع دراسته الأساسي. في فقرة بعنوان “أساس متزعزع: مفهوم الروح مفقود”، ينتقد غياب البعد الروحي في علم النفس الغربي المعاصر، مشيرًا إلى أن مصطلح “سيكولوجيا”(Psychology) مشتق من الكلمتين اليونانيتين “ψυχή” (psyche) وتعني “الروح” أو “النفس”، و”λογία” (logia) وتعني “دراسة”. أي أن المعنى الأصلي للمصطلح هو “دراسة النفس” أو “علم الروح”. ومع ذلك، أعيد تعريف علم النفس ليتركز على دراسة العمليات الذهنية والسلوك الإنساني، وفق منظور تجريبي يستبعد الأبعاد الميتافيزيقية والفلسفية. يُلاحظ أن مفهوم “الروح” مرفوض عمومًا في الأوساط العلمية، بوصفه غير قابل للدراسة المنهجية. وبدلًا من ذلك، يركّز علم النفس على العقل والسلوك كمحورين رئيسيين.
♦ يفتقر مفهوم “العقل”، حسب زجاريا ومساعدوه، إلى تعريف موحد يحظى بإجماع علمي. وتتنوع تعريفاته بين اتجاهين:
− الاتجاه المادي: يفسّر العقل على أنه نتيجة للنشاط العصبي في الدماغ، ويربط بين العمليات العقلية والوظائف البيولوجية التي يمكن قياسها. لكن هذا التفسير يُهمِل احتمال وجود خصائص عقلية معقّدة (تُعرف بالخصائص الناشئة (emergent properties))، لا يمكن تفسيرها فقط من خلال مكوّنات الدماغ الفردية. كما أن بعض الباحثين يرون أن العقل لا يتأثر بالدماغ فقط، بل يمكن أن يؤثر عليه أيضًا، لأنه يتشكل من خلال التجارب والعلاقات الاجتماعية.
− النموذج الوصفي: يُعرّف العقل كمجموعة من الوظائف العقلية، مثل التفكير والانتباه والإدراك، دون تفسير آلي دقيق. وهذا التعريف، على الرغم من انتشاره، إلا أنه يُعاني من دوران مفاهيمي (conceptual circularity)؛ حيث تُعرّف الوظائف الذهنية بالعقل، والعقل يُعرّف بتلك الوظائف، مما يعيق بناء نظرية تفسيرية متماسكة.
♦ في هذا السياق، أجرى زاجاريا ومساعدوه دراسة لتقييم الهشاشة النظرية في علم النفس، من خلال تحليل تعريفات المفاهيم الأساسية (core constructs) كما تُقدَّم في الكتب التمهيدية. وقد فُحِصَ أحد عشر كتابًا شائعًا نُشر بين عامي 2012 و2019، بالإضافة إلى قاموس الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA) واعتمد الباحثون على الفرضية العلمية أن الكتب التمهيدية تعكس البنية المعرفية السائدة في العِلْم. أظهرت نتائج التحليل تفاوتًا كبيرًا في تعريف المفاهيم الأساسية، مثل العقل والسلوك والذاكرة والانتباه والانفعال، ما يُبرز غياب التوافق المفاهيمي، وضعف البنية النظرية، ويعكس التشتت المفاهيمي الذي يعاني منه علم النفس.
♦ تطرح الباحثة تساؤلًا محوريًا مفاده: إذا كانت المفاهيم الأساسية في علم النفس الغربي، مثل العقل، والنفس، والسلوك، والانفعالات، تعاني من غموض نظري وتباينات في التفسير، أفلا يُعدّ من المشروع علميًا الرجوع إلى القرآن الكريم والسنة النبوية لاستجلاء هذه المفاهيم؟
ذلك أن المصادر الإسلامية تقدم تصورات واضحة ومتكاملة بشأن هذه المفاهيم، الأمر الذي يتيح للباحث المسلم إمكانية تطوير إطار معرفي (بارادايم) بديل، يهدف إلى سد الثغرات النظرية في علم النفس المعاصر. وبناءً على ذلك، فإن الباحث المسلم يمتلك الأسس العلمية والمنهجية التي تمكّنه من توظيف الوحي كمصدر معرفي أصيل، يُسهم في بناء تصور شامل ومتكامل لعلم نفس إسلامي.
“الحرب السريرية”: صراعات بين المدارس الفكرية في علم النفس
♦ يشير زاجاريا ومساعدوه إلى أن العلاقة بين علم النفس التجريبي (النظري) وعلم النفس السريري لا تزال تمثّل إشكالية محورية، وقد وصفها بـ”الحرب السريرية” نظرًا لحجم التوتر القائم بينهما. يتجلّى هذا التوتر في التعارض بين المنهج النمطي (Nomothetic approach)، الذي يسعى إلى استنباط قوانين عامة عبر دراسة السلوك بأساليب كمية، والمنهج الإيديوغرافي (Idiographic approach)، الذي يركّز على فهم التجربة الفردية ضمن سياقها الخاص. هذا الخلاف المنهجي يؤدي إلى ازدواجية نظرية وسريرية، ويُعيق بناء نموذج معرفي موحّد ومتماسك.
♦ من جهة أخرى، يسلّط زاجاريا ومساعدوه في دراسته الضوء على قدرٍ من الارتباك في صياغة المفاهيم العلاجية النفسية (therapeutic constructs)، حيث يُعاد طرح نفس المفاهيم تحت مسميات متعددة دون تطوير جوهري في الفهم أو التفسير. وقد أُطلق على هذه الظاهرة مصطلح “نومينومانيا “(Nomino-Mania)، في إشارة إلى الإفراط في إنتاج المصطلحات دون زيادة معرفية توازي هذا الزخم اللغوي. ورغم الجهود المبذولة للتقريب بين المدارس العلاجية المختلفة، لا تزال العديد من المفاهيم تُستخدم داخل أطرها النظرية الأصلية، وغالبًا ما تُرفض من قبل أنصار مدارس أخرى. هذا الواقع يُكرّس الانقسام النظري، ويحدّ من إمكانية التكامل بين المنهجيات المختلفة.
♦ علاوة على ذلك، يشير زاجاريا ومساعدوه إلى أن استخدام مصطلح “مدرسة فكرية” (school of thought) في السياق العلمي يُعد إشكاليًا، لما يحمله من دلالات أيديولوجية أو ثقافية قد تتعارض مع مبدأ الانفتاح المنهجي والتطور المستمر الذي يُفترض أن يُميز البحث العلمي. وفي هذا السياق، تُعَدّ محاولات توحيد علم النفس تهديدًا مزعومًا للتعددية، غير أن هذا التصور قد يكون مضللًا؛ إذ إن التعددية غير المنضبطة، حين تُفهم بوصفها قبولًا متساويًا لكافة الأطروحات، بما في ذلك غير المدعومة تجريبيًا، تُهدد النزاهة العلمية، وتُعيق التراكم المعرفي، وتُبطئ من تقدم الحقل.
♦ ترى الباحثة أن وضوح النصوص القرآنية والنبوية وبساطتها في عرض مكونات النفس البشرية ووظائفها، يفتح أفقًا علميًا مهمًا لتقريب الفجوة بين التنظير والممارسة الإكلينيكية في علم النفس المعاصر. ويُسهم هذا الإطار المتكامل في الحدّ من الإرباك الناتج عن تشعّب المصطلحات وتباين التعريفات في الأدبيات النفسية الحديثة.
كما أن اعتراف العلوم الغربية بتعدد مدارسها وتنوع مقارباتها، يُبرّر للباحث المسلم النظر إلى علم النفس من زاوية مرجعيته الخاصة، مستندًا إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، ومستضيئًا بالمفاهيم المتجذّرة في التراث العلمي الإسلامي.
ورغم هذا الأفق الواعد، يواجه المتخصص في علم النفس الإسلامي تساؤلات واعتراضات، حتى من داخل الوسط الإسلامي، من قبيل: كيف يمكن بناء علم نفس إسلامي موحّد في ظل تعدد المذاهب واختلاف الطوائف؟ وهل سينتج عن ذلك علوم نفسية متباينة بتباين المرجعيات العقدية؟ غير أن هذه الإشكالات ليست حكرًا على السياق الإسلامي؛ فالتعدد في المدارس النفسية الغربية، كالتحليلية، والسلوكية، والمعرفية، والإنسانية وغيرها، يعكس تنوعًا في الرؤى الفلسفية، ومع ذلك يُعدّ عنصرًا من عناصر تطور المعرفة النفسية وتطبيقاتها.
بناءً عليه، فإن تجاوز هذه الإشكالات في السياق الإسلامي ممكن إذا ما اعتُمد الوحي (القرآن والسنة) أساسًا معرفيًا، وفق فهم السلف الصالح، مع الاستفادة من المنجزات العلمية الحديثة، ما دامت لا تتعارض مع أصول الشريعة. وبهذا النهج المتوازن، يمكن التأسيس لعلم نفس إسلامي، ويقدّم حلولًا متماسكة للإشكالات النفسية المعاصرة.
الفرق بين علم النفس والعلوم “الصلبة”: موقعه في الهرمية العلمية
♦ سعى زجاريا ومساعدوه إلى تحديد ما إذا كانت الإشكالات المفاهيمية التي يعاني منها علم النفس تمثّل سمة عامة في جميع العلوم، أم أنها تميّز علم النفس عن غيره، لا سيما عند مقارنته بالعلوم “الصلبة (hard sciences)”، كالكيمياء والفيزياء وعلوم الأحياء. الأدلة التجريبية تشير إلى وجود تفاوت ملحوظ في درجة التماسك المفاهيمي والانضباط المنهجي بين التخصصات العلمية. ويُصنَّف علم النفس، بوصفه علمًا “لينًا “(soft science)، على أنه أقل من حيث الصرامة العلمية مقارنةً بالعلوم الصلبة، نظرًا لاعتماده الأكبر على التفسيرات النظرية والتأويلات المتعددة، وضعف القدرة على التنبؤ الدقيق بالظواهر. وقد أظهرت دراسات متعددة أن العلوم الصلبة تتفوّق على علم النفس في عدد من المؤشرات الإبستمولوجية (epistemology)، من أبرزها:
− نسبة القوانين إلى النظريات (Theories-to-laws ratio): تتسم العلوم الصلبة ببنية معرفية مستقرة تقوم على قوانين واضحة، بينما يطغى على علم النفس تعدد النظريات وقلة القوانين الموحّدة.
− معدلات الاستشارة قبل النشر (Consultation rate): يميل علماء النفس إلى استشارة زملائهم بمعدلات أعلى، مما يُعد مؤشرًا على غموض القضايا النظرية وتعدد زوايا الفهم.
− تركيز الاقتباسات (Citation concentration): تتوجه الاقتباسات في العلوم الصلبة نحو أعمال مرجعية محددة، على عكس علم النفس الذي يتميز بتشتت في المصادر، ما يدل على ضعف التوافق النظري.
− سرعة تقادم المعرفة (Obsolescence rate): تُظهر العلوم الصلبة قدرة أسرع على استيعاب المعرفة الجديدة واستبدال المفاهيم القديمة، بعكس علم النفس الذي يعاني من بطء في التراكم العلمي.
− كثافة استخدام الأدوات الكمية (Graph prominence): تُستخدم الرسوم البيانية والأساليب الكمية بشكل أكبر في العلوم الصلبة، بينما يقل هذا الاستخدام في علم النفس، خاصة في فروعه النظرية.
− بساطة العناوين الأكاديمية (Relative title length): تميل العناوين في العلوم الصلبة إلى الإيجاز والدقة، في مقابل عناوين أكثر تعقيدًا وطولًا في علم النفس، غالبًا بسبب الحاجة لتوضيح الإطار المفاهيمي.
− حجم فرق البحث (Number of authors): تشير الأبحاث إلى أن فرق البحث في العلوم الصلبة أكبر حجمًا، ما يعكس وجود توافق يسمح بتوزيع الأدوار، خلافًا لما هو شائع في علم النفس.
− طول المقالات وعدد المراجع (Length of article, Number of references): يُلاحظ في علم النفس ميلٌ إلى الإطناب وكثرة الاستشهادات، ما يعكس الحاجة إلى تعزيز المصداقية في غياب إجماع مفاهيمي.
− الاعتماد على الكتب بدلًا من المقالات (References to Monographs): يميل الباحثون في علم النفس، خاصة في الفروع الإنسانية، إلى النشر في كتب طويلة، بخلاف اعتماد العلوم الصلبة على المقالات المحكمة.
− تنوع المصادر(Diversity of sources): التعدد الكبير في مصادر علم النفس يُشير إلى غياب مركزية معرفية، ويعكس تشتت الجهود البحثية.
− الأسلوب الشخصي (Use of first person): يظهر استخدام ضمير المتكلم بشكل أوضح في علم النفس مقارنة بالعلوم الصلبة، التي تعتمد لغة علمية محايدة.
− ضعف تشابه المراجع بين الدراسات (Sharing of references): قلة التداخل في المراجع تعكس نقصًا في الخلفية المعرفية المشتركة بين الباحثين في علم النفس.
♦ بما أن علم النفس يُصنّف غالبًا ضمن العلوم الناعمة، التي بطبيعتها لا تمتلك درجة الدقة والصرامة المنهجية التي تتميّز بها العلوم الصلبة، وبالنظر إلى محدودية أدواته في إنتاج نتائج قابلة للتكرار والتعميم الدقيق، تتساءل الباحثة: لماذا يُفترض بالمسلمين أن يخضعوا بالكامل للنموذج المعرفي الغربي في علم النفس؟ ولماذا يتعامل بعض الباحثين المسلمين مع هذا العلم كما لو كان منزّهًا عن النقص، فيأخذونه كما هو دون مراجعة أو نقد بنّاء؟
هذا التساؤل لا يُعدّ طعنًا في قيمة علم النفس، فهو علم إنساني مهم قدّم مساهمات كبيرة في فهم السلوك البشري. إنما هو دعوة لمقاربة أكثر وعيًا ونضجًا في التعامل مع المعرفة المستوردة، خاصة حين تمسّ جوهر الإنسان وفهم ذاته. ومن أبرز معايير النضج العلمي ألا يُعامل أي علم، مهما بلغت إنجازاته، بوصفه مقدّسًا، بل ينبغي أن يكون عرضة للنقد، والتحليل، والتطوير المستمر.
وفي سياق الاهتمام بفهم الإنسان، الكائن الذي يحتلّ مركز الرسالة القرآنية، فإن السعي إلى تأسيس علم نفس إسلامي لا يعني رفض منجزات علم النفس الحديث، بل يعني إقامة إطار معرفي أو باراديم من القرآن والسنة، ثم الاستفادة من كل ما هو نافع ومشروع من التجارب الإنسانية. فالهدف ليس الانغلاق، بل بناء إطار معرفي متكامل يستند إلى مرجعية دينية، ويواكب التقدم العلمي المعاصر.
مرحلة ما قبل-البارادايم
♦ يعلن زاجاريا ومساعدوه أن عددا من الباحثين يذهبون إلى أن علم النفس، بخلاف العلوم الصلبة، لا يزال يمرّ بما يُعرف بـالمرحلة ما قبل البارادايم (Pre-paradigmatic stage)، بحسب التصنيف الذي وضعه توماس كون. وتمثّل هذه المرحلة الحالة التي يفتقر فيها علم النفس إلى إطار معرفي موحّد أو بارادايم جامع، وهو ما ينعكس في غياب اتفاق واسع النطاق بين الباحثين على المفاهيم الأساسية أو المنهجيات المعيارية.
♦ في هذا السياق، حسب زاجاريا ومساعديه، لا يُقدَّم علم النفس كنموذج علمي موحّد، بل كحقل تهيمن عليه مدارس فكرية متنازعة، مثل المدرسة التحليلية، والسلوكية، والإنسانية، وغيرها، مما يؤدي إلى تشظي معرفي وإعاقة لتشكيل برنامج بحثي متماسك. ونتيجة لذلك، تُعاني مفاهيم جوهرية كـالعقل، والإدراك، والعاطفة، والسلوك، من عدم اتساق في التعريف، وتُقدَّم بصيغ متضاربة أو دائرية، ما يُضعف من إمكانات التراكم المعرفي والاختبار العلمي الصارم.
♦ يضيف زاجاريا ومساعدوه أنه على امتداد تاريخه، لم يشهد علم النفس، لا في مراحله الأولى ولا في حاضره، نشوء بارادايم بالمعنى الكوني المتعارف عليه في فلسفة العلوم، بل ظلّ حقلًا معرفيًّا يتسم بالاضطراب النظري وتعدد غير منضبط في الاتجاهات والتصورات. هذا الواقع يعزز وصفه بأنه علم ناعم، لم يتجاوز بعد طور التأسيس، ولا يزال يسعى نحو بناء بنية إبستمولوجية أكثر استقرارًا.
♦ ترى الباحثة أنه إذا كان علم النفس الغربي يفتقر إلى وجود بارادايم موحد يجمع بين مدارسه ونظرياته المتعددة، ويعاني من تناقضات منهجية وافتراضات متباينة يصعب دمجها في إطار واحد، فلماذا لا يسعى علماء المسلمين لتأسيس نموذج موحد في علم النفس الإسلامي؟ نموذج يستند إلى مصدر معرفي ثابت ومتسق، هو الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية. فبينما يتنقل الفكر الغربي بين مقاربات نفسية متضاربة، يمكن لعلم النفس الإسلامي أن ينطلق من رؤية توحيدية للإنسان، منبثقة من فهم قرآني ونبوي شامل لطبيعة النفس، وأهداف وجودها، ومراحل تطورها. هذا لا يعني رفض التنوع أو إسقاط التجارب النفسية الغربية، بل يعني إمكانية الاستفادة منها ضمن إطار معرفي متكامل ومتماسك، يجعل من الوحي مرجعية عليا، ويُفعّل العقل والمنهج العلمي كأدوات لفهم الظاهرة النفسية بطريقة مشروعة.
إن الحاجة إلى بارادايم موحد ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة علمية ومنهجية، خاصة في زمن تتعاظم فيه الأسئلة حول الهوية والإنسان والمعنى. وعلم النفس الإسلامي مؤهل، من حيث الأصول والمقاصد، لتقديم هذا الإطار الجامع الذي افتقدته النماذج النفسية الغربية.
الحل في العلم النفسي التطوري
♦ يطرح زاجاريا ومساعدوه علمَ النفس التطوري كأحد أكثر النماذج وعدًا لتشكيل إطار موحد لعلم النفس، نظرًا لكونه إطارًا ميتانظريًا (Metatheory) يجمع بين البيولوجيا التطورية، وعلم الأعصاب، والعلوم النفسية المختلفة، والأنثروبولوجيا. فعلم النفس التطوري يتميز بقدرته على تفسير دوافع السلوك الإنساني من خلال الانتقاء الطبيعي، كما يدمج بين الطبيعة والتنشئة، ويقدّم تفسيرًا تطوريًا للاضطرابات النفسية بوصفها فشلًا في التكيف مع البيئة. كما يُبرز هذا النموذج المفارقة بين أهداف الجينات والسلوك. حسب زاجاريا ومساعديه، ورغم الانتقادات، يمتلك علم النفس التطوري خصائص تجعله المرشح الأفضل ليكون نظرية شاملة أو إطارًا توحيديًا لعلم النفس الحديث. بعبارة أخرى، يبدو أن علم النفس التطوري هو النهج الأكثر اكتمالاً وتعددًا في فهم الأداء النفسي البشري (وغير البشري).
♦ تطرح الباحثة سؤالًا جوهريًا: إذا كان بعض المفكرين الغربيين يعترفون بأن علم النفس الحديث، رغم تقدمه الظاهري، ما يزال “عملاقًا بأرجل من طين”، يعاني من هشاشة نظرية وتشتت في الاتجاهات، فلماذا لا يكون للمسلمين مسارهم الخاص في بناء علم نفس ينطلق من مرجعية متكاملة وثابتة؟
يزعم زاجاريا ومساعدوه أن علم النفس التطوري، رغم تعقيده وسعة نطاقه، هو الأقدر، من بين النماذج الغربية، على تقديم إطار موحد لفهم السلوك البشري. ومع ذلك، فإن هذا النموذج نفسه يتلقى انتقادات غربية كثيرة ويظل قائمًا على فرضيات غير يقينية، ومرتكزًا على تصورات مادية وانتقائية تتعارض مع الرؤية الإسلامية للإنسان والحياة والكون.
إذا كان الغرب لا يزال في رحلة بحث عن نظرية كبرى تُنقذ علم النفس من تمزقه الداخلي، فإن لدى المسلمين أصلًا ثابتًا ومصدرًا غنيًا في القرآن الكريم والسنة النبوية، يمكن أن يشكل بارادايم نظرية نفسية إسلامية شاملة. نموذج يستوعب الأبعاد الروحية والعقلية، إلى جانب النفسية والجسدية، ويمنح فهماً أكثر اتزانًا وإنسانية للذات البشرية.
من هنا، يصبح من المنطقي، بل من الضروري، أن يُعيد الباحث المسلم النظر في مرجعياته، وأن يقيم من الوحي إطارا معرفيا قادرًا على سد الثغرات النظرية التي تعجز النماذج الوضعية عن تجاوزها، مع الاستفادة من المنجزات العلمية دون أن يفقد هويته المعرفية.
الخاتمة
أبرزت هذه الدراسة بعض الانتقادات الغربية لعلم النفس الغربي والتي تتمثل في أن علم النفس لا يزال يُعاني من هشاشة مفاهيمية ونظرية تعيق تحوّله إلى علم صلب بالمعايير المعتمدة في العلوم الطبيعية وأنه يُصنف ضمن ما يُعرف بمرحلة ما قبل الباراديم. وفي مواجهة هذا المأزق المعرفي، يرى الباحثون أن علم النفس التطوري يُقدّم إطارًا أكثر شمولًا وتماسكًا لتوحيد التوجهات المتفرقة في علم النفس.
البحث معتبر من الناحية العلمية حيث إن تصنيفه حسب موقع سيماغو يعد Q1 في مجالات الدراسات الثقافية والفلسفة، و Q2 إلى Q4 في مجالات أخرى مثل علم النفس التطبيقي وعلم النفس الاجتماعي. وبلغ عدد اقتباسات المقال أربع وستين.
هذا النوع من النقد المعرفي البنّاء، القائم على مراجعة علم النفس الغربي من داخله، يُعد ركيزة أساسية في دعم الجهود الرامية إلى بلورة باراديم معرفي بديل في النظرية النفسية الإسلامية الشاملة. إذ يُسهم هذا التقييم في كشف الثغرات النظرية والمنهجية الكامنة في النموذج السائد، ويفتح المجال لتطوير إطار علمي أكثر انسجامًا مع الرؤية الإسلامية للإنسان، التي تنظر إليه ككائن متكامل في أبعاده الجسدية والعقلية والنفسية والروحية. يجب أن تتظافر كل الجهود العلمية الإسلامية لهذا الهدف العلمي.
وما توفيقي إلا بالله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرجع البحث والتصحيح
Zagaria, A., Ando’, A. & Zennaro, A. Psychology: a Giant with Feet of Clay. Integr. psych. behav. 54, 521–562 (2020). https://doi.org/10.1007/s12124-020-09524-5
رابط ملحق تصحيح البحث: https://link.springer.com/article/10.1007/s12124-022-09734-z
مؤلفو البحث موضوع التحليل
الدكتور أندريا زاجاريا (Andrea Zagaria) : أستاذ مساعد في قسم الطب النُظُمي بجامعة روما تور فيرغاتا، إيطاليا. نشر زاجاريا أكثر من 50 بحثًا علميًا في مجالات تخصصه.
الدكتورة أغاتا ماريا كلوديا أندو (Agata Maria Claudia Andò): بروفيسورة مشاركة في قسم علم النفس بجامعة تورينو في إيطاليا. نشرت أغاتا أندو أكثر من 35 بحثًا علميًا في مجالات علم النفس السريري والتقييم النفسي.
الدكتور أليساندرو زينارو (Alessandro Zennaro) هو بروفيسور جامعي إيطالي، يشغل منصب أستاذ علم النفس المرضي وتقييم الشخصية في قسم علم النفس بجامعة تورينو. يُعتبر من الشخصيات البارزة في مجال علم النفس السريري والتقييم النفسي في إيطاليا. شر زينارو أكثر من 90 بحثًا علميًا في مجالات علم النفس السريري والتقييم النفسي.
الترجمة والتحليل:
الدكتورة ليلى الشريف: استشارية طب نفس أطفال ومراهقين، بروفيسورة مشاركة سابقة بكلية الطب بصفاقس، تونس، خبيرة في العلاج السلوكي المعرفي، نشرت عشرين بحثًا علميًا في مجالات الطب النفسي للأطفال والمراهقين، حاصلة على بكالوريوس العلوم الإسلامية تخصص القرآن الكريم وعلومه، باحثة في العلم النفسي الإسلامي.