احدث الإشعارات

العلاج النفسي في الأزمات.

السؤال:

لعلكم تابعتم ما يحدث في العالم العربي والإسلامي من تطورات ومشكلات وأزمات تستدعي تدخل المختصين النفسيين فالسؤال ما نصيحتك للمختصين النفسيين لإدارة هذه الملفات

الإجابة:

 هذا السؤال يتضمن جانبين: جانب عملي وآخر علمي نظري متعلق بالنظرية. الجانب العملي: ليس هذا مجال نقاشه الآن.
أما الجانب العلمي والنظري: فلي فيه رأي معروف، وقد تحدثت عنه وشرحته كثيرًا منذ بدايات الأزمات قبل 13 سنة، وهو رأي مخالف للرأي السائد عند كثير من الناس والأخصائيين. وهذا الرأي يتبناه عدد كبير من العلماء على مستوى العالم، وتدعمه أيضًا شريحة داخل منظمة الصحة العالمية.

مضمون هذا الرأي أن: في مثل هذه الظروف التي تمر بها البلاد، الجهد الأكبر المطلوب ليس من الأخصائيين النفسيين أو من منظومة الصحة النفسية، بل من المجتمع المحيط: (الأقارب، الأصدقاء، الجيران، المشايخ، عامة الناس، الجهات الحكومية). 

الدور الأساسي الآن هو توفير الأساسيات: الأمن، الاستقرار، الأكل، الشرب، استقرار الوظائف، وتدفق الأغذية. هذه هي الأولوية، وليس إقامة البرامج النفسية أو صرف الأموال والجهود عليها. بل على العكس، يجب ألا نُساهم في نشر “المراضة”، أي الترويج غير الضروري لفكرة وجود أمراض نفسية في كل حالة. يجب أن نُركّز على ما يسمى “الدعم التلقائي العفوي” الذي ينبع من المجتمع والدولة واستقرار الأمور. في هذه المرحلة، يكون الدور الأكبر لرجال المجتمع العام: الخطباء، الجيران، الأقارب، الأصدقاء… أما دور المختصين النفسيين، فيكون من خلال مشاركتهم في هذا الإطار العام، مثل المحاضرات العامة واللقاءات المفتوحة. لكن المحاضرات يجب ألا تُمرِض الناس، لا تكون بنشر الخوف من الأمراض أو الصدمات، بل يجب أن يكون الخطاب واقعيًا مطمئنًا: “نحن في مرحلة صعبة، ومن الطبيعي أن نمر بظروف قاسية، لكنها مؤقتة، وستزول بإذن الله”. ثم نحث الناس على الاقتراب من أهاليهم وجيرانهم وأصدقائهم.

السبب العلمي لهذا الرأي هو أن التجارب العالمية – بل تجارب التاريخ كله – تُبيّن أن: الدعوة إلى العلاج النفسي الجماعي أو التوسع في تقديم الدعم النفسي في مثل هذه الظروف، قد يكون له أثر سلبي على النمو النفسي الطبيعي للناس. في الأزمات العصيبة يجب أن نتيح لهذا النمو الطبيعي أن يحدث، ونوفر جهود القطاع النفسي للحالات الصعبة فقط، تلك التي يُحوّلها المجتمع مباشرة إليه.

يجب أن يركّز القطاع النفسي الآن على: بناء المؤسسات، تثبيت الأنظمة، استقرار النظام النفسي العام.

طبعًا أنا أعلم أن التجارب السابقة مع الإخوة والأخوات أظهرت أنهم لا يرتاحون لهذا الطرح، ويرون أنه غير كافٍ، بل ترد عبارات مثل: “ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه”، وغيرها… لكنني، مع الوقت، أدركت أن هناك من لديه قناعة راسخة بضرورة الفعل والمساهمة، وهو يرى أن عليه أن “يفعل شيئًا”.

وأنا أرى أن هذا هو المطلوب فعلًا: أن يشارك الأخصائي باعتباره فردًا من المجتمع، ينشر ثقافة أن ما يحدث أمر مؤقت وسيزول، يُساهم في بناء المؤسسات النفسية وتقويتها في هذه المرحلة الانتقالية، ويُركز في خطابه العام على: الفرح، البهجة، الحمد والشكر، وتوجيه الطاقات لما هو أولى. أما دعم الحالات النفسية فيكون لمن يحتاج فعلاً، ويُحوَّل من المجتمع للقطاع المختص. هذا باختصار رأيي، وقد شرحته كثيرًا، وهناك من يقبله، وهناك من لا يقبله. ونسأل الله تعالى أن يتمم الخير على المسلمين، يا رب العالمين.

 

وتبقى هناك مسائل عملية أيضًا، مثل ما يُعرف بـ “الحالات الأكثر حاجة”، كمَن قضوا سنوات طويلة في المعتقلات، أو تعرضوا لتعذيب شديد، ونحو ذلك. وهنا يبرز سؤال مهم: ما الطريقة العلمية الصحيحة للتعامل مع هذه الحالات؟ هل نقول مثلًا: يجب أن يمر جميع المعتقلين بفحص نفسي؟ يجب أن يُعرضوا على طبيب أو أخصائي نفسي؟ يجب أن يحصلوا جميعًا على دعم نفسي؟

لا طبعًا، ليس بالضرورة. بل الوقائع التي رأيناها بينت ما أصبح الآن حقيقة علمية معروفة عند غالبية العلماء: أن النظريات القديمة التي كانت تقول إن الناس يمرون بمراحل محددة كالصدمة، ثم الغضب، فالإنكار… لم تثبت صحتها. وأن الصحيح هو أن لا يوجد قالب نفسي واحد للجميع، بل الناس يتفاوتون. بل إن العكس هو الصحيح: غالبية الناس – أو عدد كبير جدًا منهم – يتجاوزون الأزمات. لذلك، التوجيه العلمي المعتمد في مثل هذه الحالات هو ما يُسمى بـ “الإحالة الذاتية”. ولا ينبغي أن يتحول الخطاب النفسي إلى خطاب إمراضي يُخيف الناس ويرعبهم بأن هناك أمراضًا نفسية في كل مكان، أو يُطالبهم بمراقبة أنفسهم باستمرار، فهذا الخطاب غير مناسب في مثل هذه الظروف. 

الحالات الأكثر حاجة هي تلك التي تفشل معها التدخلات الطبيعية (التي أشرنا إليها في المقطع السابق)، وتحتاج إلى خدمة نفسية متقدمة أو ما يُعرف بـ”المستوى الثاني” من الدعم. هنا يأتي دور القطاع الصحي النفسي: أن يوفر الكوادر والخدمات اللازمة لهذا المستوى، بدلًا من تشتيت الموارد على المستوى الأول (أي التدخل المبكر الشامل للجميع). وذلك لعدة أسباب: الكوادر قليلة، الموارد المالية محدودة، خاصة في مثل هذه الظروف. حتى إن توفرت الموارد، لا داعي أن نُشجّع المتبرعين على تمويل برامج دعم نفسي عام وشامل. بل التركيز الحقيقي يجب أن يكون على: بناء قطاع نفسي صحي قوي، توفير الموارد، تدريب المتخصصين، التركيز على حالات (المستوى الثاني) التي تحتاج فعلًا إلى دعم.

 

يبقى أن نتحدث عن النظرية النفسية الإسلامية: ما موقفها من مثل هذه الظروف؟ وما خلاصة ما تقدم؟

نحن نؤكد على أهمية الخطاب النفسي العام، والذي يتوزع على مستويات متعددة: الدعم النفسي الأساسي لا يأتي – في الغالب – من القطاع الصحي النفسي بل يأتي من المجتمع نفسه: الأصدقاء، الأقارب، الأهل، الجيران. ثم على مستوى أعلى: المشايخ، الخطباء، والدعاة وكذلك من خلال وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، كاليوتيوب والخطب والمحتوى المرئي والمسموع.
في هذه المرحلة، ينبغي تركيز الجهود على أدبيات الخطاب العام وأدبيات الخطاب النفسي. من ذلك: تعزيز قوة الإيمان، شكر الله سبحانه وتعالى على النجاة، التأكيد على أن العوارض النفسية أمر متوقع في مثل هذه الظروف، بثّ الطمأنينة بأننا – بإذن الله – سنتجاوز هذه المرحلة، ونتخطاها مع الصبر والثبات.
ومع مرور الوقت، تبدأ الحالات التي لم تستفد من هذا الدعم الأولي في الظهور، وهنا يكون القطاع الصحي النفسي قد جهّز نفسه: لم يستهلك موارده في غير محلها، احتفظ بكوادره المدربة، أصبح مؤهلاً لتقديم خدمات متقدمة للحالات التي تحتاج فعلاً إلى التدخل.

بشكل عام، يركّز الخطاب النفسي الإسلامي في مثل هذه الظروف على: مفاهيم الصبر والاحتساب، القضايا الإيمانية العامة، تنمية الصفات النفسية الإيجابية، الاستفادة من الأزمات في بناء الذات من جديد، تحويل التجربة الصعبة إلى نقطة انطلاق نحو حياة أقوى وأكثر ثباتًا.إلى آخره من مكونات وأدبيات الخطاب النفسي الإسلامي في مثل هذه الظروف.
نسأل الله تعالى أن يلطف بالمسلمين جميعًا، وأن يُصلح الأحوال يا رب العالمين.

 

بالطبع، لا يمنع أن يتضمّن الخطاب النفسي العام بعض الإرشادات العامة والتوجيهات العملية.

فعلى سبيل المثال، يمكن أن تشمل الخُطب والمحاضرات النفسية العامة القضايا التي تكلمنا عنها: التأكيد على أهمية الفرح، وشكر الله وحمده، الحث على الصبر وتجاوز الأزمة.
تقديم نصائح عملية، مثل: من يعاني من مشاكل في النوم، تُقدّم له إرشادات عامة للمساعدة.
من يعاني من نوبات الذكريات المؤلمة (Flashbacks) _ وهي نوبات هجمات مفاجئة من الذكريات المؤلمة _ كيف يتعامل معها في الجملة؟ بدون الدخول في تدخلات كثيرة، وتدخلات الصدمة، وكيف يتعامل مع الصدمة، هذا خطأ، حتى من الناحية العلمية، حتى من الممارسة العلمية.

الفكرة الأساسية التي ينبغي التركيز عليها هي: السماح للنمو النفسي الطبيعي التلقائي أن يأخذ مجراه، دون إعاقته. وقد أصبح هذا التوجه أمرًا شبه متفق عليه بين غالبية المختصين في مجال الصدمة والأزمات، وهو وجوب السماح للنمو النفسي التلقائي العفوي المجتمعي الطبيعي، دون الحرص على في المستوى الأول وهو غالبية الناس دون الإقحام أنفسنا في المستوى الأول، لازم نتدخل، لا، هذا خطأ.

المشاركة:

اترك تعليقاً

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً

إسئلة ذات صلة

استكشف المجالات والشعارات

Scroll to Top