مع السنوات الأولى لظهور شبكة العلوم النفسية العربية، كانت تعرض أخبار المؤتمرات في الشأن النّفسي والتربوي في العالم العربي بشكل رائع، وكانت لدي نهمة للمشاركة في المؤتمرات، ربما لأني أسعى للحصول على تحكيم لبعض الأفكار قبل نشرها، فلم تكن أبحاثًا للترقية لأني لست أستاذًا جامعيًا.
كان المؤتمر الثاني الذي دلتني عليه الشبكة المذكورة هو مؤتمر لتطوير التعليم في العالم العربي شاركت فيه بورقة علمية وهي التي استحالت كتابي “من لم يكن مهندسًا فلا يدخلنّ منزلي!!”، وكان المؤتمر من تنظيم الجامعة المرموقة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. والبيت القصيد ذو الصلة بموضوعنا أنّه في إحدى الجلسات ارتقى المنصة خبير أمريكي عمل مستشارًا للتعليم في دولة عربية وقال: بعد قراءتي رسائل الماجستير والدكتوراه في هذا البلد قلت لهم: ابحثوا عن خبير عربي تستشيرونه، أنا أمريكي لم أستطع فهم مشكلاتكم حتى أقدم لكم الاستشارة المناسبة!
إن هذا المستشار الأمريكي يرى في رجوعنا إلى ذواتنا وثقافتنا ملاذًا لاستشارة أكثر عمقًا من الاستشارة المستوردة!
لا أخفيك قبل أيام قليلة شرعت في قراءة مشروع المؤرخ الشهير محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، والمفاجأة أني وجدت خبر افتتان الغربيين يومها بثقافتنا بشكل لافت حيث نقل عن المؤرخ والمستشرق الأسباني سيمونت قوله: “وقد كان يأسر الشباب النصراني منظر العظمة المادية والحضارية الي تفوقت بها قرطبة المسلمة على قرطبة النصرانية، وماكانت تقترن به هذه العظمة من المظاهر الأدبية والفنية، التي بثها عبدالرحمن بحبه للشعر والفلسفة والموسيقى، وكان من مظاهر تأثر الشباب النصراني أنهم كانوا يكتبون ويتكلمون العربية محتقرين دراسة اللغة والآداب اللاتينية”.
فما أشبه الليلة بالبارحة، إذ أضحى افتتان الأمم ببعضها دولًا تارة وتارة!!
دعنا نعود لغربي آخر في مؤتمر مختلف، وهو مؤتمر التخطيط الحضري الذي كلفني المعهد العربي لإنماء المدن حضوره في جامعة طيبة، إذا بأحد خبراء الأمم المتحدة يفاجئنا بجواب على سؤال من الجمهور قائلاً: لا تسألونا عن الجوانب الحضرية لمدنكم، أنتم أعرف بثقافتكم وما يناسبها، اسألوا خبراء محليين أو عربًا مثلكم.. ثم اندفع يشرح صورًا من الجوانب الحضرية التي توجهها الثقافة والسياق الاجتماعي لكل مجتمع!!
وفي مؤتمر ثالث في الجامعة الإسلامية في ماليزيا، شاركت بورقة مع الرابطة العالمية لعلماء النّفس المسلمين وكانت بعنوان “أثر المصطلحات في تقويم وتشخيص الاضطرابات النّفسية”، إذ بخبير عربي يخبرنا عن موقف وحدث مر به وهو يقدم ورقة في مؤتمر برلين النّفساني. خلاصة القصة أنه بعد الفراغ من تقديمه لورقته ذات النَّفَس الإسلامي، علّق عليه أحد الأطباء النفسانيين الألمان وقال له: الذي قدمته نظرية للباحث الأمريكي فلان وكل ما صنعته أنك طعمتها بنصوص من تراثكم!!ارجعوا إلى تراثكم وأتونا بجديد، ارجعوا إلى قرآنكم وأتونا بجديد، (هكذا علقت القصة في ذاكرتي)
وما أشبه الليلة بالبارحة، فهذا غربي آخر ينصحنا النصيحة ذاتها!!
إن رجوع الباحث إلى ثقافته ليمتح منها نظرياته، أو يطور بها أجوبته، أو يفيد بها مجتمعه لا تعني الانغلاق وعدم الإفادة من تجارب الأمم، بقدر ما يعني أن تكون ثقافتنا هي المكوّن الرئيس، وهي الصانع للمرشاد المهيمن على رؤانا، إذ بعد ذلك لا يضيرك أي تجربة ونظرية وممارسة اطلعت عليها وأفدت منها لدى أمم الأرض قديمها وحديثها. ولعل هذا يتصل بما بالنظرية التي سكّها البروفيسور عبدالله البريدي “الأنفة الثقافية” فالاعتزاز بالثقافة لا يعني الانغلاق! وما عرف علماؤنا الانغلاق والرهبة من الانفتاح على الآخر!
دعني أختم لك بقصة طريفة، يوم أن هتف العالم لـ(بونو) حارس مرمى نادي الهلال السعودي في كأس العالم للأندية، علق خبير تربوي بلديّ الحارس بونو فقال: ليت لدينا (بونو) على حدودنا الثقافية والحضارية!! وهو يشير -أيضًا-إلى فكرة “الجمارك الحضارية” المصطلح الذي سكّه الشاهد البوشيخي والذي يعني أن لا تسمح تلك الجمارك لما يفسد الوعي أن يمر إلى وعينا الثقافي! تمامًا كما تفعل الجمارك الطبيعية على الأرض إذ تمنع كل ما يفسد الأسواق وغيرها في البلاد.
ولابد لنا هنا من الإشادة بتلك الجهود الوطنية المعاصرة في المملكة العربية السعودية في الشأن الثقافي والتي تضطلع بها وزارة الثقافة حيث أرتنا بوادر نهضة ثقافية تتسع آفاقها شيئا فشيئًا عبر هيئاتها المتعددة.
غير أن تلك الجهود -بطبيعة الحال- تستدعي منا جميعًا تفاعلًا يليق بها، ومشاركة تناسبها، وحضورًا اجتماعيًا وثقافيًا في أنشطتها، وانخراطًا عمليًا في استثمارها على أكمل وجه يجعل الشارع يتنفس الثقافة المحلية بكل حمولتها الشعبية وحسها الوطني وقيمها الإسلامية. فتكون ثقافتنا هي الموئل والمنطلق. والله أعلم.