احدث الإشعارات

الثُنائيات في علم النفس الإسلامي، نحو رؤية أكثر إنسانية.

من تلاقي الأضداد يُولد الوضوح الحقيقي، فنتزن بالجمع كما الطائر بجناحيه؛ فنُحلق بالرجاء والخوف، الشدة واللين، محدودية الإنسان وكمال الله المُطلق. وها هنا يتجلى جوهر وسطية الإسلام: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ﴾.

مُنذ بداية معرفتي ومروري بالنظرية النفسية الشاملة، والتي كانت نافذتي الأعمق على علم النفس الإسلامي، دائمًا ما تتوقف أنظاري وأفكاري على هذا المفهوم المُتعلق بالموازنة والثُنائيات والجمع بينها. وكأنها بوابتي الجديدة لتقبُّل نفسي والقدرة على التعامل معها. وكأنها جرَّدتني من نظارتي المُعتمة لأخرى صافية شفافة؛ ومن هنا تختلف الرؤية!
فقديمًا كنت أظنني معطوبةً أو بي خلل، لا تنفك الأفكار بذهني تطاردني: أنّي منافقة ولست مؤمنةً بما يكفي! إذ كيف يمكن أن أكون متوكلةً على الله مُسلمةً له، وأنا أضع الخطط تِلو الأخرى وأبذل السبب يليه السبب؟ كيف لهذا التناقض أن يجتمع؟

لكن عجيبٌ أمر الإنسان! أن كيف يجتمعُ في قلبه الخير والشر، الكفر والإيمان، الطاعة والمعصية؟ وهنا تكمن بشريته، في دوام هذا التقلب والتغيير. فَلا أحد فينا على نموذجٍ واحدٍ ثابتٍ لا يتزعزع طوال حياته، بل يتقلب حالنا من آنٍ لآخر؛ فتارةً تجد أحدنا هادئًا ساكنًا، وتارةً تجده كالموج العاصف الذي يظنه الناظرُ لا هدوء له أبدًا.

فَنعود للسؤال الرئيسي، وهل من عَالمٍ لما خَلق أفضل منه سبحانه؟

أنت طوال رحلة بحثك وقراءتك؛ لا تجد نموذجًا يجمع بين طرفيّ الحبل كما يفعل الإسلام. فتجده جلّ وعلا يأمرك بالسعي حينًا، ففي آيات سورة النجم يقول المولى جلّ جلاله: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ (٤١)﴾، ثمّ في حينٍ آخر يُذكّرك بمحدوديتك وقصور قدرتك، فَيأمرك بالتوكل والتسليم والخروج من حولك وقوتك إلى حوله وقوته، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾[هود: 123].

وهُنا يتضحُ جلال المنظور الإسلامي وعظمته، فلا يوجد نموذجٌ يحترمُ بشرية الإنسان وحدوده وطاقته ويراه بعين الحقيقة والتجريد كما النموذج الإسلامي، ولا أحد يعلم النفسَ على حقيقتها بكل ما فيها من عُقدٍ وتكويناتٍ وخبايا كما يعلمها خالقها جلّ شأنه.
وفي هذا المفهوم تحضرني مقولة سمعتها من دكتور خالد الجابر؛ تصاحب طريقي دائمًا مُذ علمتها، حيثُ يقول:

المؤمن متقلِّب المقامات؛ يدعو وهو في مقام (عين اليقين) أنّه مُجاب الدعوة كما هي. حصل ما دعا به؟ انتقل إلى مقام (الحمد والشُكر). لم يحصل ما دعا به؟ انتقل إلى مقام (الصبر والرضا والتسليم).

د/ خالد بن حمد الجابر.

مع مرور الأيام وتوسع إدراكي ومعرفتي، يزداد تعمق هذا المفهوم في ذهني، وانبهاري بكيفية تلاؤمه  ليس فقط مع طبيعة الإنسان، وإنما أيضًا مع واقع الحياة ومساحتها. فأنت في هذه الحياة إما تجد نفسك في مساحةٍ لا يُمكنك مساسها أو تغييرها، أو في مساحةٍ أخرى قابلةٍ للتغيير والتحكم.

وكما ذكر د/ خالد الجابر في (الحلقة الثانية من بودكاست سكينة| يا مَن تمر بأزمة) (1) عن تجلي هذا المفهوم في قول رسولنا الصادق الأمين ﷺ: «إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون». فلا قدرة لدينا على التحكم في حزننا وألمنا ومشاعرنا؛ إلا أنّا نملك قدرة التحكم فيما يصدر منّا من انفعالاتٍ وأفعال.

ويتكرر المفهوم ليمر عليّ في مساحاتٍ متعددة ومختلفة، ففي المساحة التربوية مثلًا تجد قانونها الأهم مُتمثل في الجمع بين (الحنو والحزم)؛ فلا تميلُ كل الميل فتكون صارمًا مُجحفًا، ولا أنت في الجهة الأخرى تتساهل وتُلبي كُل الرغبات والاحتياجات، فتُحب، وتحترم، وترأف، ومعهم تضع القواعد والقوانين وتلتزم بها، وهكذا تُربي.

وفي مساحةٍ أُخرى، خلال قراءتي لِكتابٍ عن التعافي من الإدمانات والسلوكيات القهرية، وفي خوضه رحلة التعافي منها يقول الكاتب:

“فمن عوّل على سعيه وإرادته فقط، احترق بقُطبه الموجب (الفاعل/ الإرسالي)؛ قُطب (التغيير)، فتهلك نفسه ويتجمد سيره. ومن عوّل على قُطبه السالب (المُنفعل/ الاستقبالي)؛ قُطب (القبول والتسليم)، أيضًا تعطل وتوقف نموه وركد تطوره وأصابه ما نسميه (شلل الجبرية والمغلوبية). وكما لا يوجد طائر يُحلق بجناحٍ واحدٍ فلا يتزن من سار على حبل الطريق مائلًا لإحدى زاويتيه. وإنّ توحُّش وتضخُّم أي قُطبٍ منهما وتعديه على مساحات القُطب الآخر يُسد بطاريتنا ويحرقُ خلاياها!”(2)

ومن هُنا يتجلى أنّ علم النفس، حتى في نظرياته الغربية التي تستميت في محاولة استبعاد الجانب الروحي، لا يُمكنه إنكار الثُنائيات أو تجاوزها، شاء ذلك أم أبى؛ فهي تحكم النفس البشرية بطبيعتها. ويتضح هذا جليًا، سواءً في المثال التربوي الذي منه نموذج (التربية الإيجابية) القائم على موازنة الحنو والحزم، أو في المثال الآخر عن رحلة التعافي من الإدمان التي تجمع بين التسليم والسعي. فهي نماذجٌ تُجسد الثُنائيات في أبهى صورها، رغم انبثاقها من قلب العالم الغربي، لأنها ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].

وختامًا، من تلاقي الأضداد يُولد الوضوح الحقيقي، فنتزن بالجمع كما الطائر بجناحيه؛ فنُحلق بالرجاء والخوف، الشدة واللين، محدودية الإنسان وكمال الله المُطلق. وها هنا يتجلى جوهر وسطية الإسلام:
﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾[الفتح: 29].

 


    1. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  1. بودكاست سكينة | الحلقة 2 (يا من تمر بأزمة).
  2.   كتاب (مُمتلئ بِالفراغ) / لـ د. عماد رشاد عُثمان.

اترك تعليقاً

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً

ملخص سريع

من تلاقي الأضداد يُولد الوضوح الحقيقي، فنتزن بالجمع كما الطائر بجناحيه؛ فنُحلق بالرجاء والخوف، الشدة واللين، محدودية الإنسان وكمال الله المُطلق. وها هنا يتجلى جوهر وسطية الإسلام: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ﴾.

إسهامات الكاتب الأخرى

إن غياب علم نفس إسلامي متكامل ليس نتيجة لعدم وجود أسس فكرية، بل هو انعكاس لوهم عدم الحاجة

استكشف المجالات والشعارات

موضوعات ذات صلة

من تلاقي الأضداد يُولد الوضوح الحقيقي، فنتزن بالجمع كما الطائر بجناحيه؛ فنُحلق بالرجاء والخوف، الشدة واللين، محدودية الإنسان

من تلاقي الأضداد يُولد الوضوح الحقيقي، فنتزن بالجمع كما الطائر بجناحيه؛ فنُحلق بالرجاء والخوف، الشدة واللين، محدودية الإنسان

من تلاقي الأضداد يُولد الوضوح الحقيقي، فنتزن بالجمع كما الطائر بجناحيه؛ فنُحلق بالرجاء والخوف، الشدة واللين، محدودية الإنسان

مقالات ذات صلة

المقال يسلط الضوء على الاختزالية في علم النفس الغربي ويستعرض البديل الإسلامي كنموذج شامل ومتكامل لفهم النفس البشرية.

المقال يستعرض التكامل بين النفس والعقل والقلب والروح في المنظور الإسلامي، مقدمًا رؤية شمولية للإنسان مقارنة بالفلسفة الغربية

ما من إنسان ولد في هذه الدنيا إلا ويتعرض لأمور تستدعي الصبر عليها أو تستدعي الصبر عنها؛ غير

لقد قدر الله تعالى رحمة منه بعبده وإحسانا إليه أن يجعل عمره في هذه الحياة ذا أطوار متعددة،

يناقش المقال سؤال طرحه الدكتور خالد: هل علم النفس الغربي يدرس النفس فعلا؟ ويبين كيف أن هذا العلم

إن الطريق إلى الله تعالى يحتاج إلى زاد ومعين حتى يتحصل على سكينة النفس وسكون الروح والحياة الطيبة،

Scroll to Top