احدث الإشعارات

التعافي من الصدمات النفسية في ضوء قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)

إن الله تعالى صدقنا حقيقة الدنيا وحقيقة عيشنا فيها وأننا فيها في كبد، ومن وفقه الله لفهم هذا المعنى كمُلت عنده التصورات الكبرى عن طبيعة الدنيا والآخرة والعلاقة بينهما ومن ثم يسلِّم، يرضى، يعرف أن ثم عِوض وإن خير العوض ما ينتظره في الآخرة عند لقاء ربه.

المقدمة:

 الحمد لله الذي خلق الإنسان من العدم، وأودع فيه من قدرته وحكمته ما لا يدع ريبةً لذي لُبٍّ سليم الفطرة في الإيمان واليقين به، والصلاة والسلام على محمدٍ وآله، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الإنسان من أكرم مخلوقات الله تعالى، وقد جاء القرآن منوِّهًا على هذا في قول الله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(1)، وهذا التكريم يكتمل حينما يعمل بأوامر خالقه، مبتعدًا عن نواهيه، مبرهنًا على صدقه في اقتحام العقبات والمكابد، فمن ظهر ولاؤه وصدقه في فهم طبيعة الحياة واجتياز ابتلاءاتها، نال وعودًا لن يدركها عقله، مهما أطلق له العنان، فهي إتحافات الملك، وأيٌّ كإتحافاته؟

 

وبعد: فمن منا لم يمر بأزمة؟ أزمة أظلَّت حياتَه سحائبُها، وربما بات ليله وأصبح نهاره حائرًا مهمومًا، مكدر البال، قصارى همه وجهده أن يتخلص منها، وأن يزول أثرها؟
إن الأزمات والابتلاءات التي يمر بها المسلم في الحياة الدنيا لا يمكن له حصرها، ولأن الله تعالى عالم بخلقه، أبان لنا حقيقة حياتنا بقوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِي كَبَدٖ﴾ (2)، وهذا من بديع بيانه؛ حيث بيَّن ملازمة الكبد للإنسان وكأنه غريمه الذي لا يفارقه.

أقوال المفسرين في معنى الكبد:

لقد دارت أقوال المفسرين حول معاني مختلفة(3):

  1. الشدة والعناء والنصب.
  2. مشقة عظيمة إحاطة الظرف بالمظروف.
  3. يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة.
  4. مقاساة الأمور والشدائد حتى يموت.             

إن فهم حقيقة الدنيا، وحقيقة الابتلاءات، والعلاقة بين الدنيا والآخرة(4)، من أهم المنطلقات التي تعين المسلم على الاتزان النفسي والانضباط الانفعالي، وتحصيل السكينة(5) في هذه الحياة.

إن العبد يتقلب في حياته بين مقامات ثلاث: حيث تبدأ رحلته في الحياة الدنيا، حتى إذا جاء أجله، انتقل إلى أول منازل الآخرة، حياة البرزخ، فإذا أَذِنَ الله بانتهاء الحياة بُعث العباد من قبورهم، ومن ثم يجيء المقام الثالث والأخير إما إلى جنةٍ وإما إلى نار.

ونحن مع إيماننا بذلك فإننا نتساءل: لماذا الابتلاءات؟ لماذا الأزمات؟ لماذا تأتي العبد مكدراتٌ، وهمومٌ، يضعفُ عزمُ كثيرٍ من الناس أمامها حتى بَادَرُوا الله بأنفسهِمْ منتحرين؟!

إن هذه الإشكالات تدور في أذهان كثير من الناس، وبشيء من التأمل والبصيرة سيجدون حلولها في أسئلة أخرى مثل: ماذا لو خلت الحياة من الابتلاءات والكبد والأزمات؟ ماذا لو صارت حياتنا على الأرض جنة تسير وفق مرادنا ورغباتنا؟ هل يليق بالدنيا أن تكون دار النعيم الذي لا يزول ولا يحول؟ ماذا؟ وماذا…

لقد صدَّقنا الله تعالى خبر الدنيا وحقيقتها، وحكى لنا ما حذَّره أبونا آدم عليه السلام، إذ قال تعالى:
﴿إِنَّ هَٰذَا عَدُوّٞ لَّكَ وَلِزَوۡجِكَ فَلَا يُخۡرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلۡجَنَّةِ فَتَشۡقَىٰٓ﴾
﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعۡرَىٰ﴾
﴿وَأَنَّكَ لَا تَظۡمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضۡحَىٰ﴾ (6)

فكان الخروج من الجنة شقاءً وجوعًا وظمأً وعريًا وملاقاةً للحر، وهذه هي دلالات الابتلاءات والكَبَد. وهذا ما حدث لأبينا آدم عليه السلام، ولنا من بعده، ولأن الله يحب أن يرحم عباده، ويتلقاهم بلطفه، حذَّرنا قائلًا: ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ لَا يَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ كَمَآ أَخۡرَجَ أَبَوَيۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ﴾، فالجنة هي مآل العبد بعد طاعته وصبره(7).

يقول ابن القيم رحمه الله:   

فحـَـيَّ على جَــنـَّاتِ عَـدْن ٍفـإنـَّهـــــا *** مـنازلـُنـا الأولَى وفـيـهـــا المُـخـَيـَّـمُ
ولكنـنا سَــبْـيُ العـَــــدُوِّ فـهـَـــلْ تـُرَى *** نـَعـُــــودُ إلى أوطــانـِنـا ونُسَــلـَّــــمُ

فالجنة هي المنزل الأول والأخير للمسلم، وكما يقول أبو تمام:

كم منزلٍ في الأرض يألفه الـ ***    فتى وحنينه أبدًا لأول منزلِ

إن خلوَّ الحياة الدنيا من الابتلاءات والكَبَد يضرُّ بالمسلم؛ حيث يزداد تعلُّقه بالحياة ونعيمها، بما يؤثر على إيمانه وارتباطه بمنزله الأول. فالأزمات فرصة كبيرة للتخلص بها من هذا التعلق، ومن ضعف البناء النفسي الذي يجعل صاحبه هشًّا، سريع الانكسار عند نزول الأزمات، فالأزمات فرصةٌ للتخلُّص بها من هذه المشكلات، وفرق كبير بين التخلُّص منها والتخلُّص بها.

ولا يزال تراثنا الإسلامي يمدنا بنماذج تطبيقية أبرزت هذه المعاني، ومن ذلك ما ذُكِر عن الحافظ ابن حجر:(8)

لما كان قاضي القضاة، حيث مر يوما بالسوق في موكب عظيم وهيئة جميلة، فهجم عليه يهودي يبيع الزيت الحار، وأثوابه ملطخة بالزيت، وهو في غاية الرثاثة(9) والشناعة، فقبض على لجام بغلته وقال: يا شيخ الإسلام تزعم أن نبيكم قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر). فأيُّ سجن أنت فيه! وأي جنة أنا فيها؟ فقال: أنا بالنسبة لما أعدَّ اللهُ لي في الآخرة من النعيم كأني الآن في السجن، وأنت بالنسبة لما أُعِدَّ لك في الآخرة من العذاب الأليم كأنك في جنة، فأسلم اليهودي.

والحمد لله أولا وآخرا

 

 

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  1. سورة الإسراء (الآية 70)
  2. سورة البلد (الآية 4)
  3. تفسير الطبري، فتح القدير للشوكاني، نظم الدرر للبقاعي عند تفسير الآية.
  4. محاضرة: يا من تمر بأزمة للدكتور خالد الجابر.
  5. محاضرة: السكينة، السكينة للدكتور خالد الجابر.
  6. سورة طه: (117-119).
  7. سورة الأعراف: (27).
  8.  فيض القدير للشوكاني، ج (3)، ص: (546).
  9. الرث: الخسيس البالي من كل شيء، لسان العرب، ج (6)، ص: 98. 

اترك تعليقاً

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً

ملخص سريع

إن الله تعالى صدقنا حقيقة الدنيا وحقيقة عيشنا فيها وأننا فيها في كبد، ومن وفقه الله لفهم هذا المعنى كمُلت عنده التصورات الكبرى عن طبيعة الدنيا والآخرة والعلاقة بينهما ومن ثم يسلِّم، يرضى، يعرف أن ثم عِوض وإن خير العوض ما ينتظره في الآخرة عند لقاء ربه.

إسهامات الكاتب الأخرى

لقد قدر الله تعالى رحمة منه بعبده وإحسانا إليه أن يجعل عمره في هذه الحياة ذا أطوار متعددة،

إن الطريق إلى الله تعالى يحتاج إلى زاد ومعين حتى يتحصل على سكينة النفس وسكون الروح والحياة الطيبة،

إن الإيمان بالله الطريق الأقوم والأوحد لتحقيق الأمن النفسي في هذه الحياة، ومهما ذهب الإنسان في دروبها باحثا

الصبر خير مطية يبحر بها المسلم في رحلة الحياة الدنيا، يواجه به معاركها وأزماتها، إنه يجعل المرء دائما

موضوعات ذات صلة

إن الله تعالى صدقنا حقيقة الدنيا وحقيقة عيشنا فيها وأننا فيها في كبد، ومن وفقه الله لفهم هذا

إن الله تعالى صدقنا حقيقة الدنيا وحقيقة عيشنا فيها وأننا فيها في كبد، ومن وفقه الله لفهم هذا

إن الله تعالى صدقنا حقيقة الدنيا وحقيقة عيشنا فيها وأننا فيها في كبد، ومن وفقه الله لفهم هذا

مقالات ذات صلة

المقال يسلط الضوء على الاختزالية في علم النفس الغربي ويستعرض البديل الإسلامي كنموذج شامل ومتكامل لفهم النفس البشرية.

المقال يستعرض التكامل بين النفس والعقل والقلب والروح في المنظور الإسلامي، مقدمًا رؤية شمولية للإنسان مقارنة بالفلسفة الغربية

ما من إنسان ولد في هذه الدنيا إلا ويتعرض لأمور تستدعي الصبر عليها أو تستدعي الصبر عنها؛ غير

لقد قدر الله تعالى رحمة منه بعبده وإحسانا إليه أن يجعل عمره في هذه الحياة ذا أطوار متعددة،

يناقش المقال سؤال طرحه الدكتور خالد: هل علم النفس الغربي يدرس النفس فعلا؟ ويبين كيف أن هذا العلم

إن الطريق إلى الله تعالى يحتاج إلى زاد ومعين حتى يتحصل على سكينة النفس وسكون الروح والحياة الطيبة،

Scroll to Top