مقدمة
في عالمٍ يموج برسائل التميز وقوالب الكمال، تتردد على أسماعنا شعاراتٌ من قبيل: “كن الأقوى”، “تحدث بثقة”، “لا تُظهر ضعفك أبدًا”. ومع تكرار هذه العبارات حتى أصبحت جزءًا من الثقافة اليومية، ترسخ في أذهان الكثيرين أن النجاح مرهون بالجرأة الاجتماعية والقدرة الفائقة على الإقناع والحضور، لكن خلف هذه الصورة البراقة يكمن وهمٌ خطير؛ إذ صار بعض الناس يقيسون قيمتهم بمدى قدرتهم على الظهور الاجتماعي، وكأن التفوق في ميدان واحد معيارٌ إلزامي للجميع، متناسين أن الإنسان ليس نسخةً موحدة، وأن التنوع في الشخصيات والقدرات هو سمة أصيلة للحياة.
في هذا المقال، نستعرض ما وضحه الاستشاري النفسي الدكتور خالد بن حمد الجابر في حلقة برنامج بصائر بعنوان: “لا يلزم أن نظهر أقوياء”، حيث بيَّن خطورة هذا التصور الزائف، وآثاره السلبية على الصحة النفسية والاجتماعية، وكيف يمكن أن نتعامل معه بوعي واتزان. وسندعم هذا الطرح بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية من توجيهات تؤكد على التوازن الإنساني، وتُعلِّمنا أن القوة الحقيقية ليست في التكلّف والتمثيل، وإنما في الصدق مع النفس والرضا بما قسم الله.
الحقيقة التي تغيب عن كثيرين
الناس مختلفون في قدراتهم وطبائعهم، وهذه سنة الله في خلقه، قال سبحانه:[وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا] الزخرف: 32. فلا يمكن أن يكون كل إنسان خطيبًا مفوهًا، كما لا يمكن أن يكون كل إنسان قائدًا أو إداريًا ناجحًا.
لكن حينما نتجاهل هذا الاختلاف، يبدأ الضغط النفسي، وتظهر مشكلات مثل الرهاب الاجتماعي، وهو نوع من القلق يجعل صاحبه يخشى المواقف العامة، ويتخيل أن الأنظار كلها ترصد حركاته، حتى لو كان الأمر عاديًا عند الآخرين. كثير من المرضى في العيادات النفسية يعانون؛ لأنهم اعتقدوا أن عليهم أن يكونوا دائمًا متحدثين أذكياء بلا أخطاء، وأن أي ارتباك يعني سقوط صورتهم أمام الناس.
أوهام المثالية وخطر الدورات المضللة
انتشرت في العقود الأخيرة دورات “فن الإلقاء” و”الكاريزما الاجتماعية”، وهي مفيدة في حدّها الطبيعي، لكنها خلقت مفاهيم غير واقعية عند البعض، حتى ظنوا أن كل إنسان يجب أن يتحول إلى متحدث بارع، وقائد مؤثر، وصاحب حضور طاغٍ في كل مناسبة. وهذه فلسفة خاطئة؛ لأن الله تعالى يقول:[لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ] البقرة: 286. فمن الظلم أن نُحمّل النفس ما ليس في طاقتها بحجة “تطوير الذات”. النبي ﷺ اختصر الأمر كله في قوله: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) رواه مسلم. أي الزم ما ينفعك في دينك ودنياك، لا ما يفرضه الناس عليك من صور الكمال الزائف.
التوازن.. لا إفراط ولا تفريط
الرسالة الصحيحة ليست أن نرضى بالضعف، ولا أن نلزم أنفسنا بما لا نستطيع، بل أن نبحث عن التوازن. فكما قال الله تعالى:[وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا] البقرة: 143. الاعتدال هو سر الصحة النفسية؛ فلا تطلب من نفسك الكمال، ولا تتركها للانهزامية، والنبي ﷺ نبّهنا إلى أن القوة ليست في الشكل أو الظهور، بل في التحكم بالنفس، فقال:(ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) متفق عليه. فإذا لم تكن بارعًا في الحوار فهذا لا يعني أنك ضعيف، فقد تكون قويًا في العلم، في البر، في العطاء، وهذه كلها ميادين قوة عند الله.
كيف نتعامل مع الرهاب الاجتماعي؟
من أهم أسباب القلق الاجتماعي هو التركيز المفرط على الذات في المناسبات، والانشغال بأخطاء صغيرة مثل رجفة اليد أو احمرار الوجه، بينما في الحقيقة الناس مشغولون بأنفسهم. والحل يبدأ بالتفكير الصحيح:
- تقبّل أن الارتباك طبيعي ولا يُسقط قيمتك.
- لا تضخّم الموقف، فالله لا يحاسبك على لون وجهك بل على نيتك وعملك.
- مارس المواقف تدريجيًا دون تهويل، قال ﷺ: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا) رواه البخاري. لا تتمنَّ ما فضل الله به غيرك، كثير من القلق يأتي من مقارنة أنفسنا بالآخرين، مع أن الله حذّرنا فقال:[وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ] النساء: 32. فليس مطلوبًا أن تكون مثل فلان الذي يتحدث بلا توقف، بل ابحث عن مجالك الذي تبرع فيه، وأحسن فيه، ففي ذلك التنافس المشروع، كما قال سبحانه:[وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ] المطففين: 26.
خاتمة
أنت لست ملزمًا أن تكون قويًا في كل مكان، ولا أن تبدو مثاليًا في كل مجلس، بل كن متوازنًا، واعمل بما تستطيع، وتذكر دائمًا أن قيمتك لا تحددها نظرات الناس، وإنما يحددها إخلاصك لربك وعملك الصالح. قال تعالى: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] التغابن: 16. وهذا هو منهج الإسلام في كل شيء: افعل ما تستطيع، ودع عنك التكلف الذي يجر عليك الهم والقلق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع:
برنامج بصائر | حلقة: هل يلزم أن نظهر أقوياء_ د. خالد الجابر.