احدث الإشعارات

فن التعامل مع الشخص المؤذي: فهم، وعي، وتوازن.

في مسيرة الحياة، لا يخلو طريق الإنسان من احتكاكه بأشخاص يتركون في نفسه أثرًا عميقًا، قد يكون مؤلمًا، ومربكًا، ومشوّهًا أحيانًا لمعاني العلاقات. هذا المقال هو دعوة للتأمل في هذا الأذى، لا بهدف استحضاره أو إعادة اجتراره، بل لفهمه، واحتوائه، وتحويله من تجربة جارحة إلى نقطة وعي، نتأمل فيه كيف يكون التغيير الحقيقي رحلة داخلية نقطة انطلاقها هي أنفسنا لا من الخارج.

ملخص سريع

في مسيرة الحياة، لا يخلو طريق الإنسان من احتكاكه بأشخاص يتركون في نفسه أثرًا عميقًا، قد يكون مؤلمًا، ومربكًا، ومشوّهًا أحيانًا لمعاني العلاقات. هذا المقال هو دعوة للتأمل في هذا الأذى، لا بهدف استحضاره أو إعادة اجتراره، بل لفهمه، واحتوائه، وتحويله من تجربة جارحة إلى نقطة وعي، نتأمل فيه كيف يكون التغيير الحقيقي رحلة داخلية نقطة انطلاقها هي أنفسنا لا من الخارج.

تُعد العلاقات الإنسانية من أكثر العوامل تأثيرًا في الصحة النفسية والاجتماعية للفرد، إلا أن بعض هذه العلاقات قد تتسم بالضرر، سواء على المستوى النفسي أو الجسدي أو الاجتماعي. ويُشكل التعامل مع الأشخاص المؤذين تحديًا يستدعي قدرًا من الوعي والمهارة، خصوصًا عندما يكون هذا الشخص قريبًا كأحد أفراد الأسرة أو زميلًا في بيئة العمل أو حتى صديقًا مقربًا.

في هذا السياق، قدّم الدكتور خالد الجابر في إحدى محاضراته مجموعة من المفاتيح النفسية والسلوكية للتعامل مع الأفراد المؤذين، مستندًا إلى مبادئ في علم النفس وخبرات عملية في ميدان العلاقات الإنسانية. ويهدف هذا العرض إلى تلخيص أبرز النقاط التي وردت في محاضرته.

أولًا: التغيير يبدأ من الداخل.

يميل الإنسان بطبيعته إلى الاعتقاد بأن الحل يكمن في تغيير سلوك الشخص المؤذي، لكن ما تشير إليه التجارب والاستشارات النفسية هو أن البداية الحقيقية للإصلاح تنبع من الداخل. الأمر يبدأ بمراجعة الذات وإعادة النظر في أنماط التفكير والانفعال. فالمبالغة في الحساسية تجاه النقد، أو التمسك بتوقعات مثالية من الآخرين، أو تضخيم الإساءة واسترجاعها بشكل متكرر، إضافة إلى منح الشخص المؤذي سلطة غير مستحقة على المشاعر والسلوك، أو المعاناة من الاستحقاقية المبالغ فيها، كلها عوامل تؤدي إلى مضاعفة الأثر النفسي للأذى. بناءً على ذلك، تكمن الخطوة الأساسية في تعزيز البنية النفسية الداخلية وبناء شخصية متزنة قادرة على الاستجابة الواعية دون أن تنهار أو تبالغ في الانفعالات. القوة النفسية ليست انعكاسًا للقسوة أو الانغلاق، بل هي تجسيد للاتزان. أن يعبر الشخص عن مشاعره بثبات دون الانزلاق نحو الانهيار، وأن يتفهم دوافع الآخرين دون التسرع في الحكم عليهم، وأن يضع حدودًا صحية لنفسه مع الحفاظ على القيم الإنسانية الرفيعة في التعامل.

ثانيًا: تنوع أنماط الأشخاص المؤذين وفهم طبيعتهم.

أن فهم التباينات الفردية بين الأشخاص المؤذين يُعد خطوة أساسية للتعامل معهم بنظرة واعية وتحليل موضوعي. فمن المهم أن ندرك أن ليس كل من يتسبب في الأذى يعكس نية متعمدة أو خبثًا مقصودًا؛ فقد تكون بعض التصرفات المؤذية ناتجة عن سمات شخصية تتسم بالحدة أو الاندفاع، مما يجعلها تخلو من القصد المسبق للإيذاء، بل قد يكون هناك حسن نية، بالإضافة إلى قدرة على الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه. في المقابل، قد ينشأ الأذى بسبب خصائص شخصية سلبية مثل البخل المفرط، أو الغيرة الزائدة، أو الميل إلى الشك المَرَضي؛ وهي خصائص تؤدي إلى التوتر وتؤثر على العلاقات، لكنها بالضرورة لا تعبر عن سوء نية دائم. من ناحية أخرى، توجد فئة من الأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية عميقة أو اختلالات هيكلية في السلوك تجعل من ممارستهم للإيذاء نمطًا دائمًا ومتكررًا، مما يجعل التعامل معهم صعبًا أو غير قابل للإصلاح. إن القدرة على التمييز بين هذه الأنماط السلوكية تُساعد الأفراد على اتخاذ قرارات حكيمة ومتزنة بشأن طبيعة العلاقات معهم، ورسم حدود التفاعل المناسبة، إضافةً إلى تحديد حجم الجهد العاطفي والنفسي الذي يمكن استثماره سواءً للاستمرار في العلاقة أو إنهائها بشكل مدروس.

ثالثًا: وضوح الهدف من العلاقة وتحديد الموقف.

من الأخطاء الشائعة أن ينخرط الفرد في صراع دون فهم دقيق لأبعاده أو خلفياته. إذ إن التفاعل مع الأذى يجب أن يسبقه وعي بطبيعة العلاقة، وحدودها، والهدف المرجو منها. فقد يكون القرار الأنسب هو الاستمرار في العلاقة مع اتخاذ تدابير للحد من الأذى، أو الاكتفاء بقدر محدود من التواصل دون محاولة الإصلاح، أو ربما يكون الخيار الأمثل هو الانسحاب الكامل في حال تعذر تحقيق التوازن. ويُعد التقييم العقلاني لنوع العلاقة عاملًا حاسمًا في اتخاذ القرار المناسب؛ فالعلاقة مع أحد الوالدين تختلف جذريًا عن العلاقة مع زميل في العمل، كما أن طبيعة الرابطة الزوجية لا تُقارن بعلاقة الجوار أو الصداقة العابرة. إن فهم طبيعة الرابط ومستوى القرب العاطفي والاجتماعي من الطرف المؤذي يمكّن الفرد من تبني موقف واقعي، متزن، وغير قائم على الانفعال.

رابعًا: التوازن بين التسامح والحزم.

العفو لا يعني الخضوع، والتسامح لا يفرض القبول المستمر بالأذى. فالتعامل السليم مع الشخص المؤذي يتطلب الحزم في المواقف التي تستدعي موقفًا واضحًا، والتغافل الواعي عندما تكون التفاصيل صغيرة ولا تستحق المواجهة. ويُفضل اتباع التدرج في التعامل: البدء بالتنبيه عند الخطأ، ثم فتح باب الحوار إذا استمر السلوك المؤذي، وعند تعذر التغيير، يكون الانسحاب أو المقاطعة خيارًا مشروعًا. المهم في كل ذلك هو امتلاك ميزان نفسي واضح: معرفة متى يكون الصبر مطلوبًا، ومتى يصبح الحزم واجبًا، متى يكون العفو نابعًا من القوة، ومتى يكون التذكير ضروريًا، ومتى يجب الانسحاب حين لا يُمكن إصلاح العلاقة.

خامسًا: التثبت قبل إساءة الظن.

ليست كل إساءة صادرة عن نية سيئة، فقد يتألم الإنسان من تصرّف ما، بينما الطرف الآخر غافل تمامًا عن أثره. وبعضهم يدرك ما فعل، لكنه لا يبالي، وهناك من يؤلمه عجزه عن التغيير رغم إدراكه للخطأ. في مثل هذه الحالات، لا يكون الظن السيئ هو الطريق السليم، كما لا يجوز الوقوع في سذاجة تفتح الباب للأذى المتكرر. بين الإفراط والتفريط، يكون التثبت هو الخيار الأكثر حكمة. فبعض الأشخاص يكفيهم تذكير لطيف يرسم حدودًا واضحة، ليكفّوا عن تجاوزها، بينما آخرون لا يُجدي معهم الوضوح، ويكون تجاهلهم وتجنّبهم بهدوء هو الموقف الأجدى. ومن الحكمة أن نُدير العلاقات بحذرٍ متزن، نحفظ به كرامتنا دون أن نُسيء الظن، ونحسن به الظن دون أن نُفرّط في الحذر.

سادسًا: ما بعد الأذى – لا تترك الغضب يسكنك.

من أكثر الأخطاء شيوعًا أن يحتفظ الإنسان بالأذى في ذاكرته وكأنه جزء من هويته، يعود إليه كلما خف الألم ليستعيده من جديد. فالغضب الذي لا يجد مخرجًا صحيًا يتحول إلى سمٍ داخلي، يتسرب إلى الفكر والسلوك والعلاقات. وليس كظم الغيظ إنكارًا للمشاعر، بل هو انضباط وجداني يحفظ الاتزان دون إنكار الألم. والتسامح لا يُعد ضعفًا، بل هو عملية تطهير داخلي تخلّص النفس من أثقال الكراهية. أما العفو، فليس تبرئة لمن أساء، بل إعلان تحرر من سلطته العاطفية على القلب. وفي هذا السياق، تبرز القاعدة القرآنية البليغة:(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، دليلاً راقيًا في بناء علاقات إنسانية تقوم على التسامح الواعي، لا على الاستسلام أو الغفلة، وعلى الترفع لا على التجاهل، وعلى حفظ الكرامة دون نزاع.

سابعًا: تحسين العلاقة بالله كعلاج للجراح العاطفية.

حين تخذلنا العلاقات البشرية وتنكسر الروابط التي كنا نظنها سندًا، تظل العلاقة بالله ملاذًا لا ينكسر، وسندًا لا يخيب. ففي اللحظات التي يضيق فيها الصدر بما يُقال أو يُفعل، تأتي التوجيهات الربانية كبلسم للروح، كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) إن الذكر، والصلاة، والدعاء، لا تقتصر على كونها عبادات مفروضة، بل تمتد لتكون وسائل فعّالة لإعادة التوازن الداخلي، وترميم التشققات التي يخلّفها الأذى العاطفي. حين تفيض الروح من الداخل بقوة الصلة بالله، تقل الحاجة إلى إثبات الذات في أعين الآخرين، وتصبح الكرامة الذاتية مشروعة بالسكينة، لا بالضجيج. عندها فقط، يكتشف الإنسان أنه أقوى مما ظن، وأن من التجأ إلى الله لا يُخذل، مهما اشتدت العواصف من حوله.

ثامنًا: إن قررت الانفصال، فلا تجعلها معركة.

ليس كل ارتباط يدوم، ولا كل علاقة تُصلح بالبقاء. ففي كثير من الأحيان، يكون الانفصال هو المخرج الأصح، سواء كان من صداقة أثقلت القلب، أو زواج استنفد طاقته، أو عمل لم يعد بيئة آمنة للنمو. غير أن الرحيل لا يجب أن يتحول إلى معركة، ولا إلى ساحة لتصفية الحسابات. المغادرة الهادئة ليست ضعفًا، بل انعكاس لنضج داخلي وقوة نفسية متزنة. والتفاهم في إنهاء العلاقات أرقى من التصادم، وأبقى أثرًا. وقد أرشدنا القرآن إلى هذا المعنى في قوله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، وهي دعوة إلى إنهاء العلاقة بقدر من الوعي والاحترام، يليق بإنسان يختار الكرامة دون خصام، ويغادر حين لا يعود البقاء فضيلة.

وأخيرًا: لا تعمم تجربتك ولا تسعَ للانتقام.

لكل إنسان قصة لا تُشبه سواها، ولكل قلب خارطة جراح لا يراها الآخرون. فما كان مناسبًا لك قد لا يكون كذلك لغيرك، وما ناسب ظرفك قد لا يليق بسياق مختلف. لذلك، لا تُعمّم التجربة، ولا تتسرّع في إطلاق الأحكام أو تقديم النصائح قبل أن تُدرك عمق ما يعيشه الآخرون. أما عن الشخص المؤذي، فقد لا يتغير، وقد يبقى كما هو، يُكرر الأذى بصور شتّى. لكن التغيير الحقيقي يبدأ منك، من قرارك بأن تصبح أكثر وعيًا، أكثر نضجًا، أكثر رحمة بنفسك. فأن تُرمّم ذاتك بعد الألم، وتُعيد ترتيب مشاعرك بعد العاصفة، وتمنح نفسك ما عجز عنه الآخرون، تلك هي القوة الحقيقية التي لا تحتاج صخبًا ولا انتقامًا، بل وعيًا هادئًا وشجاعة كريمة.


 

المرجع: مساحة منصة خطوة: كيف أتعامل مع الشخص المؤذي؟ | د. خالد الجابر

اترك تعليقاً

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً

إسهامات الكاتب الأخرى

يتناول هذا المقال بأسلوب توعوي مشوّق كيف يمكن للإنسان أن يواجه ظروف الحياة القاسية بعقلية متزنة ونفس مطمئنة.

حين تعصف الأزماتُ بالقلوب، ويشتدّ الموجُ في بحر الحياة، لا تكون النجاة إلا في سفينة اليقين، وشراع السكينة،

يتحدث المقال عن مفهوم النفس، مسلطًا الضوء على دورها في تشكيل شخصية الإنسان وسلوكه. عبر رحلة معرفية ثرية

استكشف المجالات والشعارات

موضوعات ذات صلة

في مسيرة الحياة، لا يخلو طريق الإنسان من احتكاكه بأشخاص يتركون في نفسه أثرًا عميقًا، قد يكون مؤلمًا،

في مسيرة الحياة، لا يخلو طريق الإنسان من احتكاكه بأشخاص يتركون في نفسه أثرًا عميقًا، قد يكون مؤلمًا،

في مسيرة الحياة، لا يخلو طريق الإنسان من احتكاكه بأشخاص يتركون في نفسه أثرًا عميقًا، قد يكون مؤلمًا،

مقالات ذات صلة

لا يجوز أن نُؤسّس ما هو مؤقت، أو نُشرعن ما هو تلفيقي، أو نُخدَع بما هو في حقيقته

يتناول هذا المقال بأسلوب توعوي مشوّق كيف يمكن للإنسان أن يواجه ظروف الحياة القاسية بعقلية متزنة ونفس مطمئنة.

علم النفس ليس مجرد أدوات أو تقنيات، بل رؤية شاملة للإنسان: من هو؟ وما غايته؟ هذا المقال يتأمل

اعتماد أي حقل نفسي جديد داخل الوسط العلمي ليس عملية فجائية، ولا هو قرار فردي يتخذه باحث أو

إن العبادة طوق نجاة وسبب عظيم من أسباب تحسين الحالة النفسية منحة وهبة من الله تعالى لعباده، فمن

المقال يشرح المجالات الخمسة التي من خلالها نفهم النفس ونتعامل مع مشاكلها، وفق رؤية النظرية النفسية الشاملة.

Scroll to Top