مقدمة
يمثل التوازن النفسي أحد الركائز الأساسية للصحة النفسية وجودة الحياة. وقد عبّر عن هذا المفهوم بمصطلحات عدة، من أبرزها “الوزنية النفسية” أو “الميزان النفسي”. وهو مصطلح مستمد من النصوص القرآنية التي تناولت مبدأ الميزان والعدل، كما في قوله تعالى: ( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ) وقوله: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ).
وأوضح الدكتور خالد بن حمد الجابر في هذا المقال استشاري طب الأسرة والعلاج النفسي، أهمية الوزنية النفسية في حياة الإنسان اليومية، مشيرًا إلى أنها مهارة يمكن اكتسابها عبر ضبط النفس والتعلم من التجارب، وأن لها دورًا كبيرًا في العلاقات واتخاذ القرارات وتحقيق السعادة. الوزنية النفسية تعني القدرة على تحقيق الاعتدال بين طرفين متناقضين من الصفات أو المواقف، بحيث لا يجنح الفرد إلى الإفراط أو التفريط، وإنما يحقق التوازن المناسب بحسب الموقف والنية.
مفهوم الوزنية النفسية
الوزنية النفسية ليست مجرد سلوك عابر، بل هي ملكة ذهنية وسلوكية تمكّن الفرد من الموازنة بين المواقف المتباينة، وهي تظهر في مواقف الحياة اليومية عندما يحتاج الإنسان أن يحدد النقطة الوسط بين طرفين متعارضين. ومن أبرز صورها:
- القوة والضعف: أن يكون الفرد قويًا عند الحاجة، وفي الوقت ذاته قادرًا على اللين والتواضع عندما يتطلب الموقف.
- التواضع والدونية: التواضع فضيلة، لكن إذا تحول إلى شعور بالدونية والهوان أصبح مذمومًا.
- الشجاعة والخوف: المطلوب شجاعة موزونة، لا تصل إلى حد التهور ولا تهبط إلى مرتبة الجبن.
- الصبر والجزع: الصبر عند الشدائد مطلوب، غير أن الارتقاء إلى مرحلة الرضا يمنح النفس استقرارًا أعمق.
- التوكل والأخذ بالأسباب: التوكل الصحيح يقتضي بذل الجهد مع اعتماد القلب على الله، بينما التواكل السلبي يهمل الأسباب ويبرر الكسل.
أهمية الوزنية النفسية في الحياة اليومية
تتجلى الحاجة إلى هذا التوازن في معظم مجالات الحياة، منها:
- العلاقات الاجتماعية: كثيرًا ما يحتار الإنسان في كيفية التعامل مع الآخرين، هل يرد على الإساءة أم يسكت؟ هل يطالب بحقه أم يتنازل؟ هنا يأتي دور الميزان النفسي ليحدد متى يكون السكوت حكمة ومتى يكون الرد ضرورة.
- اتخاذ القرار: كثير من القرارات لا تكون سهلة، إذ تتداخل فيها عوامل متعددة من ظروف ومآلات ونتائج، والوزنية النفسية تساعد الفرد على ترجيح القرار الأنسب بعيدًا عن الانفعال أو التردد المفرط.
- مصادر السعادة: بعض الناس يحصرون سعادتهم في الماديات، ويغفلون عن مصادر أخرى مثل السعادة الإيمانية، والعلاقات الاجتماعية، والعطاء الإنساني، والمعرفة. والتوازن هنا يقتضي تنويع مصادر السعادة وعدم الاقتصار على جانب واحد.
- التضحية: ليست كل تضحية إيجابية، فالتضحية إذا جاءت بدافع الإكراه أو الضعف الداخلي قد تتحول إلى عبء نفسي، بينما التضحية الصادرة عن إرادة صادقة ورغبة حرة تكون مثمرة، حتى وإن بلغت أقصى صورها كالتضحية بالنفس في سبيل الله أو الدفاع عن الأهل والوطن.
كيفية اكتساب الوزنية النفسية
تحصيل هذه الملكة لا يتم عبر وصفات جاهزة، بل هو عملية تراكمية تحتاج إلى وقت وتجربة ومن أبرز وسائل اكتسابها:
- المجاهدة وضبط النفس: أي تدريب الذات على التحكم في الانفعالات وردود الأفعال.
- التمرن المستمر: يتعلم الإنسان من تجاربه اليومية كيف يوازن بين الشدة واللين، بين القبول والرفض، وبين الصمت والكلام.
- النية الصادقة: الضابط الأساسي في الميزان النفسي هو النية، فإذا كان القرار نابعًا من إرادة داخلية وقناعة شخصية، فهو موزون حتى وإن بدا ضعفًا من الخارج، أما إذا كان القرار مجرد استسلام أو ردة فعل تلقائية، فهو غير متزن.
- التدرج والمرونة: لا ينبغي أن ينظر الإنسان إلى الأمور بمنطق “إما أو”، بل عليه أن يدرك أن لكل موقف ما يناسبه، فقد يكون قويًا حين تستلزم القوة، ومتسامحًا حين يغلب جانب التسامح.
عقبات التوازن النفسي
هناك معوقات قد تحول دون تحقيق الوزنية النفسية، أبرزها:
- إشكالية التفكير الثنائي: حصر الأمور في طرفين متناقضين مثل: إما قوة مطلقة أو ضعف مطلق.
- ردود الفعل الانفعالية: اتخاذ القرارات كردود أفعال عاطفية غير مدروسة يؤدي إلى نتائج غير متوازنة.
- غياب الوعي بالنية: اتخاذ قرارات تحت ضغط خارجي أو ضعف داخلي دون وعي بالهدف الحقيقي.
الجانب العلاجي والاستشاري
كثير من المراجعين في العيادات النفسية يعبّرون عن معاناتهم بقولهم: “لا أعرف كيف آخذ حقي”، أو “لا أعرف متى أتكلم ومتى أسكت”، وتظهر هذه الإشكالية بوضوح في العلاقات الزوجية، حيث يحتاج كل طرف إلى تعلم كيفية التوازن بين القبول والرفض، والحوار الهادئ بدل الانفعال أو الاستسلام.
خاتمة
الوزنية النفسية ملكة أساسية لكل من يسعى إلى حياة متوازنة وصحية نفسيًا واجتماعيًا، وهي ليست وصفة سريعة أو مهارة فطرية فقط، بل مهارة تُكتسب مع الممارسة والوعي والتجربة، ومن يحسن تحقيقها يعيش في راحة داخلية، ويتمتع بقدرة على التعامل مع تقلبات الحياة بمرونة وحكمة، فيحقق سعادة شاملة قائمة على التوازن والاعتدال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع: