هل نصغي للنفس… أم نسكتها؟
هل ما نشعر به هو مجرد أعراض؟
هل يمكن أن يكون القلق نداءً من النفس بلغة لا نفهمها؟
هل الاكتئاب ضعف كيميائي؟ أم خلل أعمق في تصور أو خُلق أو في صلة بالله؟
وهل يمكن أن تكون النفس تحاول أن تشرح ألمها لكننا لا نحسن الاستماع؟
لقد تعودنا أن نسكت النفس بالأدوية أو التحليلات، لكننا نادرًا ما أصغينا لصوتها الحقيقي.
لغة واحدة لا تكفي: أزمة النموذج الغربي.
في علم النفس الغربي، كل مدرسة افترضت أن للنفس لغة واحدة:
- السلوكية: النفس تتكلم عبر “السلوك القابل للقياس”.
- التحليلية: النفس تتحدث من “اللاوعي والطفولة”.
- المعرفية: النفس تعبر من خلال “الأفكار”.
- البيولوجية: النفس مجرد دماغ ونواقل عصبية.
والنتيجة؟
نموذج مكسور، يداوي جزءًا ويسكت الباقي. ولهذا لا عجب أن تتكرر المعاناة، وتُسكن الأعراض دون شفاء حقيقي. (1)
النفس في التصور الإسلامي: كيان متعدد الأبعاد.
النفس ليست صندوقًا مغلقًا، ولا كيانًا بسيطًا يُفهم من زاوية واحدة. إنها بناءٌ معقد، تتفاعل أجزاؤه بعمق، وتتكلم بأكثر من صوت في آنٍ واحد.ولهذا، لا يكفي أن ننظر إلى ما يظهر على السطح، بل نحتاج أن نقرأ المجالات التي تتكلم النفس من خلالها… لا لتشخيص ألمها فقط، بل لفهم جذوره، وبناء طريق حقيقي للسلام الداخلي.
في النظرية النفسية الشاملة التي طورها الدكتور خالد الجابر، تفهم النفس على أنها كيانٌ مركب ينطق بخمس مجالات متكاملة بعيدًا عن الاختزال الغربي للنفس. وكل مجالٍ منها يمثل بعدًا جوهريًا من النفس، إذا فُهم، فُهم الإنسان، وإذا أُهمل، اختلت النفس.
وإليك المجالات الخمسة .. كيف تتكلم النفس بأبعادها المتعددة؟
- مجال التصورات العليا والإيمان:
كيف ترى الله؟ ما مدى توكلك عليه؟ هل تعبده حبًا أم عادة؟ هل ترضى بقضائه وتستشعر حكمته؟
في هذا المجال، تتشكّل طمأنينة النفس، ويعاد توجيهها نحو أصل الأمان بعلاقتها بربها. - مجال تصور الإنسان للدنيا والسعادة والنجاح.
هل ترى الدنيا ساحة امتحان أم حلبة إنجاز؟ما تصورك عن السعادة؟ النجاح؟ البلاء؟
في هذا المجال، يُعاد تشكيل المعنى الذي يحكم استجابتك لما يحدث حولك. فكثير من التوتر أو الخوف أو الشعور بالفشل لا ينبع من الواقع ذاته، بل من تصور مختل عن الحياة وأهدافها ومقاييس القيمة فيها. - مجال نمط الحياة والعادات اليومية
متى تنام؟ كيف تأكل؟ هل تنعزل كثيرًا؟
نمط الحياة ليس ظرفًا خارجيًا، بل انعكاس لحالتك النفسية وتجليات تصورك الداخلي. فالفوضى في المواعيد، أو الإهمال في الجسد، أو العزلة المزمنة، قد تكون ترجمة عملية لاضطراب داخلي لا يصرح به، لكنه يمارس كل يوم. - مجال الصفات النفسية الراسخة.
هل تُعجب بنفسك؟ هل تغلبك الغيرة؟ هل يغضبك الخطأ لأنك لا تحتمله؟ هل ترى نفسك دائمًا مظلومًا؟ هل ترفض النقد؟
الصفات كالحسد أو الكبر أو البخل لا تظهر دائمًا بأسمائها، بل تمارس أحيانًا تحت شعارات ألطف. وهنا تبدأ عملية التزكية… من الداخل. - التعامل السليم مع الأزمات والمنغصات والمصائب.
في هذا المجال يربى الإنسان على أن لا ينفعل للأحداث بعفوية مضطربة، بل يتعلم الربط بين البلاء وحكمة الله، بين الألم ومجاله الداخلي. فالمصائب والمنغصات لا تقاس بحدتها فقط، بل بعمق رد الفعل النفسي والإيماني تجاهها. وهذا لا يعني كتم الألم، بل تأطيره في تصور أعلى، وانضباطه بسلوك أرقى. (2)
العلاج حين تتكامل المجالات.
النموذج الغربي لا يسمع من النفس إلا صوتًا واحدًا. السلوكي يسمع سلوكها، والمعرفي يسمع أفكارها، والتحليلي يصغي للاوعيها، والبيولوجي لا يرى إلا كيميائها. أما ما سوى ذلك، فإما يهمل، أو يعاد تأويله بلغة ذلك الصوت الواحد.
أما التصور الإسلامي، فينصت للنفس كلها، ويعيد بناءها من الجذور. العلاج هنا لا يبدأ من “دواء”، بل من:
- إصلاح الصلة بالله وتعزيز الإيمان.
- وتصحيح التصورات عن الدنيا والسعادة والنجاح.
- وتزكية الصفات النفسية الراسخة.
- وتحسين نمط الحياة والعلاقات اليومية.
- وضبط الاستجابة للأزمات والانفعالات. (2)
مشهد تطبيقي مقارن.
شاب فقد والده.
في العيادة الغربية: يشخص بالاكتئاب، ويعطى دواء ومهارات تفكير إيجابي.
في العيادة الإسلامية: يسأل عن فهمه للموت، وعن علاقته بالله، وعن نومه وطعامه، وما تغير في صفاته بعد المصاب، ثم تبنى خطة شاملة تعالج النفس كلها، لا مشاعرها فقط.
مَن فَقٍه لغات نفسه اهتدى.
النظرية النفسية الشاملة لا تقدم تقنيات فقط، بل تعيد للإنسان فهم نفسه. لأنها تؤمن أن النفس لا تتكلم من العقل فقط، ولا من الجسد فقط، بل من أعماق الإيمان، ومن أنماط العيش، ومن عمق الصفات، ومن صرخات المشاعر.
خاتمة.
إذا أردت أن تفهم نفسك حقًا، فلا تكتف بسماع مشاعرك، بل تعلم قراءة مجالات نفسك الخمسة. وهذا ما تقدمه النظرية النفسية الشاملة التي أسسها الدكتور خالد الجابر، جامعًا فيها بين التأصيل القرآني، والرؤية التربوية، والبناء العلاجي المتكامل.
فمن عرف تكوين نفسه، عرف طريقه إلى ربه، واهتدى في الحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
- الإنسان وفخ النظريات النفسية | د. خالد بن حمد الجابر
- بودكاست سكينة الحلقة 5 | البناء النفسي مع د. خالد بن حمد الجابر