الدين أساس بناء التصورات العليا
من أصول النظرية النفسية الشاملة أن الدين هو الأساس في بناء التصورات الكلية الكبرى للإنسان بشكل صحيح، وهذه التصورات بدورها مهمة في الاستقرار النفسي، فالإسلام هو الذي يجعلك تفهم الحياة والموت، الصحة والمرض، العدل والظلم، الخير والشر، الدنيا والآخرة، وغيرها من التصورات فهمًا صحيحًا منطلقًا من أساسٍ مرجعيٍّ يقينيٍّ تؤمن بصحته وتنطلق منه. وهذه النظرة إلى الدين، وهذا البناء للتصورات العليا بناءً عليه، هما ما يحميان الإنسان من الخواء الروحي، والفراغ المعنوي ومن الأزمات الوجودية، فالدين ببساطة هو الذي يجعل ِللحياة هدفًا وغايةً ومعنًى.
الفاتحة المعين اليومي للقلب الحي
ولو نظرنا إلى سورة الفاتحة من هذه الزاوية، لوجدناها تشكِّل معينًا حياتيًا يوميًا للإنسان، ليبقى قلبه حيًا بمعاني الإيمان بالله واليقين به، وتبقى نفسه سويةً معافاةً بضبطها للتصورات العليا ضبطًا منجيًا لها من كدر الدنيا، ومذكرًا لها بوقتيها وبحقيقة كونها دارًا للعمل والابتلاء.
الإله الرحمن الرحيم
فتبدأ الفاتحة في أول أربع آيات منها بالتعريف بالمعبود جلَّ في علاه تعريفًا يلم شعث القلب ويقيم أَوَدَه؛ فربك الذي أمرت بعبادته هو الله؛ الإله الوحيد المستحق للعبادة، فأنت تذل وتخضع وتطيع لمن يستحق ذلك حقًا، ومن ثم وأنت ترى نفسك عبدًا ذليلًا لهذا الإله المعبود تأتيك الرحمة لتُطَبْطِب على قلبك؛ فإلهك الذي تعبده وتخضع له ليس كما تصوّره الديانات الأخرى قاسيًا ظالمًا -حاشاه- بل هو الرحمن الرحيم جلَّ في علاه، فيزداد قلبك خضوعًا له ومحبة، فأساس العلاقة التي تربطك بالله تعالى هي الرحمة وأنت على يقين من ذلك، ويزداد يقينك مع كل قراءة واعية متدبرة للفاتحة، وأيُّ أثرٍ أقوى من هذا اليقين في قلب الإنسان المؤمن!
أثر الحمد على النفس
ومن ثم، وأنت تتحرك في دنياك، ترى من أحداثها الشيء الكثير، وتعلو فيها مشاعرك وتهبط بين حزنٍ وسعادةٍ ورضا وغضبٍ ويأسٍ وتفاؤل، ولا يربط على قلبٍ قلقٍ تُكَدِّرُه الدنيا بأحداثها إلا أن يوقن أن خالقه هو الله ربُّ العالمين، فيمتلئ هذا القلب حمدًا لهذا الربِّ الخالق البارىءِ المالكِ جلَّ في علاه. ولكن النفس قد تنازع العقل بين رغبتها في أن تكون حرَّةً طليقةً، وبين أنها خاضعة لسلطان ربِّ العالمين؛ فتأتي الرحمة مرةً أخرى لتهدِّئَ من روع النفس، وتقول لها أنّ ربَّها ربّ العالمين، المالك للكون، المتصرف فيه بمشيئته، هو الرحمن الرحيم كذلك.
فتبني الفاتحة تصورك عن الإله الذي تعبده بأنَّه؛ وهو الله المعبود هو الرحمن الرحيم، وهو الرب المالك المتصرف يبقى كذلك الرحمن الرحيم، فأيُّ سكينةٍ هذه التي يُشيعها هذا التعريفُ بالله في النفس، وأيُّ طمأنينةٍ تُرسيها الفاتحةُ مرةً بعد أخرى فيها!
التوازن الضابط
وتبقى النفس تريد وترغب وتشتهي وتهوى من كلّ ملذَّاتِ الدنيا وشهواتها، وهي مطمئنَّة أنَّ ربَّها الرحمنُ الرحيمُ! فيأتيها التوازن والانضباط بأنَّه سبحانه مالك يوم الدين، فمن رحمته وعدله أن سيكون هناك يوم تحاسب فيه هذه النفس وتدان على أفعالها؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فيدفعها ذلك لتنضبط، وتسعى لإصلاحٍ وتزكيةٍ تُنْجِيها في ذلك اليوم الذي تدان فيه النفوس كلُّها للهِ جلَّ في علاه.
التعريف بالمعبود سبحانه
ويضبط هذا التعريف بالمعبود سبحانه التصورات العليا للإنسان عن الدنيا والآخرة، والحياة والموت، والسعي والفلاح، ضبطًا دافعًا لهذه النفس لتعرِف هدف وجودها من نفس سورة الفاتحة، لتقول بملء ما فيها: يا من عرَّفتَ نفسَك سبحانك بهذه الأسماء والصفات العُلى، فإني من الذين امتلأ قلبُهم بتعظيمِك وخشيتِك ومحبتِك، والأنسِ بك، والشوقِ إليك، والوجلِ من تقصيرٍ بحقِّك، فتهتفُ هذه النفسُ بكلِّ ذرَّةٍ فيها في كلِّ ركعةٍ من صلاتها: أن ﴿إِیَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِیَّاكَ نَسۡتَعِینُ﴾.
نموذج العلم والعمل
ولكن هذه العبادة التي هي جوهر الوجود ومهمة الإنسان الأساسية، ليست مقتصرةً في المنظور الإسلامي على العبادات الشعائرية المفروضة على الإنسان، وإنما هي تتناول حياته كلَّها بكلِّ جوانبها؛ فلا يكون المؤمنُ مؤمنًا حقًا إلا إن انعكس إيمانه على سلوكِه، وتجلَّت عبادته في شؤون حياته كافَّة؛ فليس في الإسلام قيمةٌ لعلمٍ لم يتحول إلى عمل، ولا لمعرفةٍ لم تترجم واقعًا في سلوكات الحياة. وهذا ما تشير إليه الفاتحة في ذمِّها للنموذجين في آخرها: المغضوب عليهم، أولئك الذين علموا فلم يعملوا، والضالّين، الذي استمروا في جهلهم وتقليدهم لغيرهم دون سعيٍ حقيقيٍّ منهم للعلم والعلم المقترن به.
بينما يسأل المسلم الله تعالى في كلّ قراءةٍ للفاتحة أن يهديه الصراطّ المستقيم، صراطّ الذين أنعم الله عليهم، الطائعين العاملين على مر العصور: ﴿وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَعَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلصِّدِّیقِینَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَٱلصَّـٰلِحِینَۚ وَحَسُنَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ رَفِیقࣰا﴾ [النساء ٦٩]
وقد تلقَّفتِ النظرية النفسية الشاملة هذا النموذجَ القرآنيَّ، الذي يقرِنُ بين العلمِ والعملِ، فجعلته أساسَ نموذجِها في البناءِ النفسيِّ للإنسان، والأداةَ الأساسيةَ في تزكيةِ نفسِه وإصلاحِها.
الفاتحة والمعرفة الشاملة:
فنرى أن الفاتحة ذلك المعين الحياتيّ اليوميّ في كلِّ قراءةٍ لها، لا تكتفي بتعريفِ الإنسان بالله تبارك تعالى، بل هي تُعرِّفُه كذلك بنفسِه، وبأسس علاقته بالله، وتصوّراته عن مهمّته وهدفه الأساسي، وتُعرِّفُه بعلاقته بالدنيا ومصيره بعدها، مما يُعينُه في فهم الأحداث الجارية فيها؛ فمن عرف أنَّ الله تعالى هو الله المعبود، الربُّ المدبّر، الرحمنُ الرحيم، مالك يوم الدين، عرف أنّه العبدُ المخلوق، الضعيف، المحتاج، المفتقر إلى الله تعالى، المُبْتلى، المسؤول، المُحاسَب.
وهذا التعريف يبني أساس تصور الإنسان لنفسه ولحياته، فيسعى في دنياه متعلمًا عاملًا ساعيًا للهداية، ليكون من الفريق الناجي بعون الله.