المقدمة:
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم، محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، والتابعين، وبعد:
فإن آيات الله تعالى المنظورة في هذا الكون -والتي تشهد بقدرته وعظمته- أكبر من أن تُحصى، ومن أعظم هذه الآيات الشمس، التي خلقها رحمة بالمخلوقات. إنها من أعظم الدلالات على قدرته الباهرة، وتزداد عظمة القدرة فيها حينما نتدبر أنها شمس واحدة في كوكب الأرض الذي نحيا عليه، ينتفع بها جميع المخلوقات، تطلع على العباد فتنير الكون بضوئها بإذن الله.
وسبحان الخلاق العظيم، لا يُتصوَّر أن يكون الكوكب بلا شمس، ومع ذلك فإن أحدًا لا يستطيع البقاء تحت حرارتها -إلا مدة يسيرة- لما لها من ضرر. وهذا من العجب الذي يضفي عليها مزيدًا من الدلالة على القدرة الإلهية، حيث اجتمعت فيها الثنائيات: لا نتحمل حرارتها ولا البقاء تحتها، وفي ذات الوقت لا نستطيع الاستغناء عنها والعيش بدونها.
إن الشمس ضياءٌ، كما وصفها الله في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْشَمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾(1)، والصبر كذلك ضياء، كما قال ﷺ: (… والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها)(2)
وفي ضوء ما سبق يتبين لنا أن هناك صفات مشتركة بين الصبر والشمس، فكلاهما:
- ضياء.
- حارق، مُلْهِبٌ، مؤلم.
- مطهر.
- لا ينفك عنه بنو آدم.
إن الصبر مؤلم في تحمله، مرير في طعمه، ثقيل على النفوس، إلا أنه مُنقٍّ ومطهر لصاحبه. إنه جوهرة الصفات النفسية، وبوابة الصحة النفسية في منظور علم النفس الإسلامي(3)، فالصبر هو مفتاح إحدى القوى القلبية المحركة للإنسان.
لقد فقه الصحابة والسلف رضي الله عنهم أهميته، فورد عنهم ما تطيب به النفوس والمجالس بشأنه(4):
- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “إن أفضَل عيشٍ أدرَكناه بالصَّبرِ، ولو أنَّ الصَّبرَ كان مِنَ الرِّجالِ كان كريمًا”.
- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “ألا إنَّ الصَّبرَ مِنَ الإيمانِ بمَنزِلةِ الرَّأسِ مِنَ الجَسَدِ، فإذا قُطِعَ الرَّأسُ باد الجَسَدُ، ثُمَّ رَفعَ صَوتَه فقال: ألا إنَّه لا إيمانَ لمَن لا صَبرَ له”.
- وقال الحسن البصري: “قَطرَتانِ وجُرعتانِ؛ فما جُرعةٌ أحَبَّ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِن جُرعةِ غَيظٍ يكظِمُها عَبدٌ بحِلمٍ يبتغي بذلك وجهَ اللهِ، وجُرعةِ مُصيبةٍ مُوجِعةٍ يصبِرُ عليها عندَ اللهِ”.
- وقال زياد بن عمرو: “كُلُّنا نَكرَهُ المَوتَ وألمَ الجِراحِ، ولكِنَّا نتفاضَلُ بالصَّبرِ”.
إن الصبر من الأدوية الناجعة والمُضَمِّدة لجراح العبد، ولعلم الله اللطيف الخبير أنه من الأمور الثقيلة والعسيرة على النفس، وعد أهلها بوفاء لا حدَّ له: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الْصَابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(5)، ووصفه النبي ﷺ بأنه خير العطاء وأوسعه حين قال: “وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ”(6).
فالصبر دواء مُنَقٍّ، وسبيل تهذيب وسكينة بإذن الله من كل الأدواء. وحريٌّ بصفةٍ هذا شأنها أن يحث الله تعالى عباده على الاتصاف بها والاستزادة منها بقوله:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا﴾(7).
إن ضياء الصبر ينير طريق العبد في حياته التي لا تخلو من المنغصات والآلام. فمن منا لم ولن يمر بأزمة أو موقف يحتاج معه إلى الصبر؟
إنه برد ينزل على القلب، فيسكب عليه السكينة، فتنار بصيرة العبد، فيرى حينئذ الموقف الضاغط والأزمة التي يمر بها، بينما العجلة والطيش لا يتولد عنهما إلا القرارات المندفعة، والتي غالبًا ما تكون خاطئة.
إن الصبر قوة معنوية داخلية تجعل الإنسان أقدر على تحمل الأزمات، وتحمل المصائب، وتحمل الواجبات. صبر على المعصية، صبر على الطاعة، تصبر على الذهاب لصلاة الفجر، فالصبر هنا قوة داخلية تجعلك تتحمل هذه المشقة، الصبر يجعلك تقف في طابور انتظار طويل بدون تأفف ولا تذمر أو تشكي، صبر الانتظار هو مواجهة مع ثبات(8).
إن مرارة الصبر وألمه في الدنيا يعقبها تطهير ورفعة في الدنيا والآخرة بإذن الله تعالى، الذي يحب الصابرين: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾(9). وإن المسلم اللبيب يحب ما يحبه مولاه وسيده ويسعى إليه، فنحن في حياتنا نحب جمع المال وتحصيله لكننا نكره المتاعب التي نبذلها لأجل ذلك ومع ذلك نصبر على المتاعب لأجل هذا المحبوب فكيف بشيء يحبه الله تعالى ووعد أهله وعودا لا تخطر لهم على عقل؟
إن كثيرا من الدراسات تناولت الصبر وأهميته(10) ودوره في معالجة المشاكل العقلية وتعزيز الرفاهية العاطفية، في ضوء الآيات القرآنية التي تؤكد على الصبر كفضيلة وتأثيرها المحتمل على الصحة العقلية، فمفهوم “الصبر” وأبعاده المتعددة الأوجه، بما في ذلك المثابرة والتحمل والمرونة العاطفية، يعني ضبط النفس والعاطفة وتحمل الظروف الصعبة.
والحمد لله أولًا وآخرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- سورة يونس: (5)
- صحيح مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري.
- بودكاست سكينة الحلقة 3 | الصبر والرضا: رؤية نفسية. مع د. خالد بن حمد الجابر
- من أقوال السلف والعلماء، موسوعة الدرر السنية.
- سورة الزمر: (10).
- متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
- سورة آل عمران: (200).
- بودكاست بدون ورق | بناء القوة النفسية.
- آل عمران: (146).
- https://youtu.be/-i1uF3pa0oI?si=KZZyvK1YD9PtCkwj