احدث الإشعارات

التزكية وأثرها في تحسين الحالة النفسية 

إن مواجهة منصفة بين المنظور الغربي في تعامله مع النفس والذي يقتصر على معاني تقدير وإثبات وتحقيق الذات والتي لن يَعْدُوَا مخرجها أن يكون تمحورا حول الذات وبين المنظور الإسلامي العميق النظر والذي يغوص في أغوار النفس البشرية كونه يرتبط بمنهج سماوي، جاء من الله تعالى، خالق النفس والأعلم بها وبأحوالها، تكشف ما يريده كل منظور لأتباعه والنتيجة التي سيؤولون إليها.
المقدمة:

     الحمد لله الذي خلق الخلق فأحصاهم عددا، وابتدأهم بنعمه وعطائه ولم يتخذ منهم صاحبةً ولا ولدا، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم نبينا محمد، صلى الله عليه وآله وصحبه والتابعين وبعد:

فقد جاء الزكاء مبثوثًا في العديد من آيات القرآن الكريم، بمشتقات مختلفة، منها: (زكى – زكَّاها- تُزَكُّوا- تُزَكِّيهم- يُزَكُّون- يُزَكِّي- يُزَكِّيكم- يُزَكِّيهم – تَزَكَّى- يَزَّكَّى- أَزْكى- زَكيِّا- زَكِيَّة- الزَّكَاة)، في سور: (النور- الشمس- النجم- التوبة – النساء – البقرة – آل عمران – الجمعة- طه- فاطر…)(1).

ماهية الزكـــــــــــــاء في المعاجم العربية: 

جاء في المعجم الوسيط(2) في مادة (زكا)

زكوا، زكاء، زكاة: نما وزاد. و-فلان: صلح. و- تنعم وكان في خصب. فهو زكي.

ويقال: هذا الأمر لا يزكو بفلان: لا يليق به. (أزكى) الشيء أزكاه وأصلحه. و- طهره.  (الزكية): أرض زكية: طيبة، خصبة.

ماهية الزكـــــــــــــاء في ضوء كلام المفسرين: 

جاء في بهجة الأريب: قوله تعالى:( وَذَ ⁠لِكَ جَزَاۤءُ مَن تَزَكَّىٰ) تطهر من الذنوب بالعمل الصالح(3).

قال البقاعي: قوله تعالى: (كَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا فِیكُمۡ رَسُولا مِّنكُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِنَا وَیُزَكِّیكُمۡ). أي: يطهركم في أقوالكم وأفعالكم وينميكم بإنعاش قلوبكم لتشرف بالمعاني الصالحة والأخلاق الطاهرة الموجبة للفوز الدائم والنجاة عما دنس اليهود وأوجب لهم الضلال من مرض القلب بإنكار النسخ وكتم الحق وإفشاء الباطل المثمر مع الضلال للإضلال. قال الحراني: أنبأهم  بأن هذا التنزيل لأنفسهم بمنزلة الغذاء للأبدان، فكما تتنامي أنفسهم بأحكام الكتاب وتلاوة الآيات، وذلك زكاؤها ونماؤها، لتتأكد فيه رغبتهم؛ لأن للمغتذي رغبة في الغذاء إذا تحققه فمن علم أن التزام الأحكام غذاء لنفسه حرص عليها ومتى نمت النفس وزكت قويت على ما شأنها أن تناله قواها كما أن البدن إذا قوي بالغذاء تمكن مما شأنه عمله(4).

قال الطبري: (وَیُزَكِّیكُمۡ): ويطهركم من دنس الذنوب(5).

فالتزكية والزكاء والزكاة كل هذه المفاهيم متقاربة، الزكاة والتزكية والزكاء، فهي تطهير ونمو، وهو المصطلح المشهور: التحلية والتخلية.

ومن ثم فهي طريقة لاكتساب الصفات الحسنة واجتناب الصفات السيئة في كل مجالات الحياة الإنسانية، ليس في الدين فقط، الجانب الديني أساسي، الجانب الأخلاق، جانب العلاقات، جانب فهمك لنفسك، فالتزكية هي التعبير الإسلامي عن الطريقة التي يتعامل فيها الإنسان مع نفسه، ولذلك فمن القصور أن يرتبط هذا المصطلح بالجانب الديني فقط لأن التزكية في حقيقتها تعبر عن أن يبذل الإنسان جهدًا منهجيًا مستمرًا في إصلاح نفسه وتحسينها في الجوانب المتعددة الدينية والنفسية والحياتية والعلاقات والأزمات وغير ذلك(6).

تزكية النفس وتهذيبها في المنظور النفسي الإسلامي(7):

إن قضية التزكية مركزية وجوهرية في المنظور الإسلامي للنفس والمقصود بها أن يبذل الإنسان جهدًا منهجيًّا مستمرًّا في إصلاح نفسه وتحسينها في الجوانب المتعددة الدينية والنفسية والحياتية والعلاقات، وهي رحلة لا تتوقف ومجرد توقف الإنسان عن تزكية نفسه أو مجاهدتها أو تحسينها فهذا يدل على وجود ضعف شديد.

إننا في المنظور الإسلامي نستعمل مصطلح تزكية النفس وإصلاح النفس بينما في علم النفس الغربي يستعملون مصطلحات تقدير الذات، توكيد الذات، تحقيق الذات، وهذا أحد الفروق الجوهرية بين المدرستين والمنظورين فنحن عندنا التزكية والإصلاح بينما هم يركزون على تقدير الذات واحترام الذات والثقة بالذات.

إن تناول قضية التزكية يثير قضية مهمة يمكن صياغتها في السؤال التالي: 

هل يمكن أصلًا تغيير الصفات النفسية؟ أم أنها صفات ثابتة جُبلت عليها لا تستطيع تغييرها؟ 

إن أي صفة نفسية يمكن تغييرها، لكن لا يلزم أن يكون التغيير جذريًا بالانتقال إلى الضد، فهناك من وُلدَ ولديه صفات نفسية جيدة فهو مجبول عليها ومن ثم لا يحتاج بذل جهد كبير، وهناك من لم يجبل عليها ومن ثم يحتاج أن يبذل مجهودًا أكبر.

إن المنظور الإسلامي لقضية تزكية النفس يتناولها في ضوء ما يلي:
  1. المراقبة والبصيرة: اعرف نفسك.
  2. العلم: أن تعلم الصواب من الخطأ والتصرف الأمثل.
  3. العمل: أن تمارس ما تعلمته. 
  4. المحاسبة والمتابعة: أن تلاحظ كيف تتصرف نفسك وأن تتابعها. 
  5. المجاهدة: أن تصبر وتجاهد نفسك على الإصلاح والعلاج. 
  6. الاستعانة بالله تعالى. 

إن تزكية النفس قضية محورية في المنظور الإسلامي؛ كونها تستهدف جوانب متعددة في الإنسان، إنها حالة من الجهاد الدائم التي يهدف المسلم بها إصلاح نفسه باكتساب الفضائل والتخلي عن الرذائل لنيل مزيد من الرفعة عند الله وفي علاقاته بالناس.

إن انطلاق مفهوم تزكية النفس من الوحي يضفي عليه قوة وعمقا لم ولن توجد في المناهج والمنظورات البشرية ذلك أنه يدعو لسبر أحوال النفس من الأعماق ففي الوقت الذي ينادي فيه المنظور الغربي بتقدير الذات والاعتداد بها يأتي القرآن مناديا: (قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا)(8) بما يزيد عمق الصلة بين الدنيا والآخرة لأن إصلاح النفس جزء من السعي الذي وعد الله بالإثابة عليه فقال: (وَأَن لَّیۡسَ لِلۡإِنسَـٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعۡیَهُۥ سَوۡفَ یُرَىٰ ثُمَّ یُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَاۤءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ)(9).

******

  1. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم مادة (زك و). غير أن الحصر الذي ذكره المصنف ستين إلا أن الصواب تسع وخمسون موضعا لأنه حصر موضع (البقرة: 151) مرتين.
  2. المعجم الوسيط مادة (زكا) ص  396-397.
  3. بهجة الأريب، ابن التركماني، م 1 ص 290.
  4. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، مجلد (8).
  5. تفسير الطبري، مجلد (1).
  6. بودكاست سكينة الحلقة 10 | هل تعرف نفسك؟ مع د. خالد بن حمد الجابر.
  7. سلسلة العبادة والنفس حلقة: (8)، دكتور خالد الجابر.
  8. الشمس: (9).
  9. النجم: (41:39).

 

المشاركة:

اترك تعليقاً

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً

ملخص سريع

إن مواجهة منصفة بين المنظور الغربي في تعامله مع النفس والذي يقتصر على معاني تقدير وإثبات وتحقيق الذات والتي لن يَعْدُوَا مخرجها أن يكون تمحورا حول الذات وبين المنظور الإسلامي العميق النظر والذي يغوص في أغوار النفس البشرية كونه يرتبط بمنهج سماوي، جاء من الله تعالى، خالق النفس والأعلم بها وبأحوالها، تكشف ما يريده كل منظور لأتباعه والنتيجة التي سيؤولون إليها.

إسهامات الكاتب الأخرى

لقد قدر الله تعالى رحمة منه بعبده وإحسانا إليه أن يجعل عمره في هذه الحياة ذا أطوار متعددة،

إن الطريق إلى الله تعالى يحتاج إلى زاد ومعين حتى يتحصل على سكينة النفس وسكون الروح والحياة الطيبة،

إن الإيمان بالله الطريق الأقوم والأوحد لتحقيق الأمن النفسي في هذه الحياة، ومهما ذهب الإنسان في دروبها باحثا

الصبر خير مطية يبحر بها المسلم في رحلة الحياة الدنيا، يواجه به معاركها وأزماتها، إنه يجعل المرء دائما

استكشف المجالات والشعارات

موضوعات ذات صلة

إن مواجهة منصفة بين المنظور الغربي في تعامله مع النفس والذي يقتصر على معاني تقدير وإثبات وتحقيق الذات

إن مواجهة منصفة بين المنظور الغربي في تعامله مع النفس والذي يقتصر على معاني تقدير وإثبات وتحقيق الذات

إن مواجهة منصفة بين المنظور الغربي في تعامله مع النفس والذي يقتصر على معاني تقدير وإثبات وتحقيق الذات

مقالات ذات صلة

المقال يشرح المجالات الخمسة التي من خلالها نفهم النفس ونتعامل مع مشاكلها، وفق رؤية النظرية النفسية الشاملة.

إن رجوع الباحث إلى ثقافته ليمتح منها نظرياته، أو يطور بها أجوبته، أو يفيد بها مجتمعه لا تعني

في التصور الإسلامي، الإنسان ليس مخلوقًا وظيفيًّا فقط، بل كائن مكلف، مسؤول، مجازى على فعله، مخيّر بين الهدى

الدليل الحسي، مهما بلغت دقته، لا يمكن أن ينفرد أبدًا ببناء علم نفس قوي ومتماسك. ومن يتوهم أنه

إن مواجهة منصفة بين المنظور الغربي في تعامله مع النفس والذي يقتصر على معاني تقدير وإثبات وتحقيق الذات

المقال يعيد تعريف النفس باعتبارها كيانًا متكاملًا من الروح والعقل والقلب والإرادة، منتقدًا غياب هذا التصور في علم

Scroll to Top