احدث الإشعارات

نموذج التعامل مع الأزمات.

حين تعصف الأزماتُ بالقلوب، ويشتدّ الموجُ في بحر الحياة، لا تكون النجاة إلا في سفينة اليقين، وشراع السكينة، ومجداف الصبر. ينسج هذا المقال خريطة العبور من ظلمات المحن إلى ضياء الطمأنينة، مستندًا إلى يقينٍ راسخ، وبناءٍ نفسي متين، وعملٍ دؤوب بالأسباب، ومساراتٍ موازية تجعل من كل أزمة سُلَّمًا نحو الارتقاء؛ حتى يكون القلب مطمئنًا، والنفس مستقرة، والعقل متزنًا، فيكون للمرء في كل محنة منحة، وفي كل ضيق فرج قريب.

حياة الإنسان مليئة بالتحديات التي تظهر على شكل ابتلاءات أو اختبارات، كما ذكر الله تعالى في قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، وأيضًا: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾. فالأزمة تتمثل في مشكلة قد تؤثر سلبًا على الإنسان نفسيًا أو جسديًا، مما يولد لديه مشاعر الكرب والهم، عندها يبدأ الشخص في البحث عن وسيلة للخروج من أزمته، وغالبًا ما يتجاهل الطرق الصحيحة للتكيف والتعامل معها. وقد أشار الدكتور خالد الجابر في الحلقة الثانية من بودكاست “سكينة” إلى نموذج واضح للتعامل مع الأزمات، والذي يتكون من أربعة أركان رئيسية.

أولًا: اليقين والسكينة.

يشير مفهوم اليقين إلى مدى استيعاب الفرد للمبادئ العليا في الشريعة الإسلامية، لا سيما عند مواجهة الأزمات. ويتمثل ذلك في الإيمان بالقضاء والقدر، والتسليم بالحكمة وراء وقوع الابتلاءات، وفهم الغاية الجوهرية من الوجود في الدنيا وعلاقتها بالآخرة، وغيرها من المفاهيم المرتبطة. فبمقدار ما يتمتع به الإنسان من يقين وإيمان داخلي بهذه المبادئ، يزداد مستوى صموده أمام الأزمات قوة أو ضعفًا.

أما السكينة فتعبّر عن درجة الاتزان النفسي والثبات الداخلي حين وقوع الأزمات، بما يشمل الصبر، والرضا، والتسليم، والسيطرة على الانفعالات. فإذا تمكن اليقين والسكينة من التغلغل في القلب، بات الإنسان أكثر قدرة على مواجهة الأزمات وتخطيها. أما في حال غياب هذين العنصرين، فإن الانفعالات تغلب عليه وتُلحق به أضرارًا نفسية.

ثانيًا: تقوية البناء النفسي. 

تبرز حقيقة الإنسان الداخلية من خلال مدى قدرته أو عجزه في تحمل الأزمات؛ ولهذا فإن علم النفس الإسلامي يشجع على العمل الجاد لإصلاح مواطن الضعف النفسي وبناء الذات بشكل أقوى. يتحقق ذلك من خلال تقوية الإيمان، والتحلي بالصبر والصلابة عند مواجهة الأزمات والضغوط، للحد من أي آثار نفسية قد تخلفها هذه المواقف على الفرد. وقد تناول الدكتور خالد الجابر هذا الموضوع، مشيرًا إلى وجود مفاتيح أساسية تُعتبر الدعامة الرئيسية لتعزيز البناء النفسي، وهي كالتالي:

  • الصبر: الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالهدوء النفسي والسكينة الداخلية، إضافة إلى ضبط الانفعالات والمحافظة على الثبات في مواجهة التحديات.
  • الرضا: الذي ينبثق عن حالة الصبر ويظل متلازمًا معه، ويرتبط به الحمد والشكر، والتوجه نحو احتساب الأجر والتسليم بمقادير الإيمان بالقضاء والقدر.
  • التوكل: الذي يتسم بتوجيه الإرادة وتقوية العزيمة مع الاعتماد على الله والاستعانة به في جميع شؤون الحياة.
  • الرجاء: المصحوب بالتفاؤل والأمل والتطلع إلى الفرج، مع إحسان الظن بالله والإيمان بكرمه ورحمته.
  • التحرر من الجزع والتسخط والاعتراض، مع تجاوز الشك والانقطاع عن التفكير الذي يعيق استقرار النفس.

ثالثًا: بذل الأسباب.

يُعدُّ بذل الأسباب من الجوانب البارزة والمهمة في علم النفس الإسلامي، حيث يُوصى الإنسان بالجمع بين أكثر من عامل عند القيام بذلك. على سبيل المثال، الصبر يكون دائمًا مصحوبًا بالرضا بما كتبه الله وقدره، ومن ثم التسليم لهذا القدر. الجمع بين هذه الصفات الثلاث، الصبر والرضا والتسليم، يُعدّ من أهم الوسائل التي تُعين الإنسان على تجاوز الأزمات. وينبغي للإنسان أن يسعى لبذل الأسباب سواء كانت دينية، كالدعاء والصدقة والتحصين بالأذكار ونحوها، أو دنيوية، مثل اللجوء إلى الاستشارة أو اتخاذ قرارات عقلانية حكيمة. وبما أن الشريعة الإسلامية تنطوي على شمولية وصلاحية لكل زمان ومكان، فقد جعلت للمسلم دائمًا سبلًا متعددة لتجاوز الصعوبات من خلال الأخذ بالأسباب الشرعية والدنيوية على حد سواء.

رابعًا: المسارات الموازية. 

تعد المسارات الموازية إحدى المزايا المميزة لعلم النفس الإسلامي في معالجة الأزمات. تمثل هذه المسارات استراتيجيات ثابتة يتعين على الإنسان اتباعها باستمرار، سواء قبل وقوع الأزمة، أثناءها، أو حتى بعدها. من بين هذه المسارات تعزيز الجانب الروحي من خلال التقرب المستمر إلى الله، حيث إن الارتباط بالله في أوقات الرخاء يجعل الله في عون الإنسان خلال الشدائد.

ففي حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: (كنتُ رديفَ رسولِ اللهِ ﷺ فقال لي: يا غلامُ، ألا أُعلِّمُك كلماتٍ ينفعُك اللهُ بهنَّ؟ فقلتُ : بلى ، فقال : احفظِ اللهَ يحفظْك، احفظِ اللهَ تجدْه أمامَك، تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفْك في الشدَّةِ ، إذا سألتَ فاسْألِ اللهَ ، وإذا استعنتَ فاسْتعنْ باللهِ ، فقد جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ ، فلو أنَّ الخلقَ كلَّهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيءٍ لم يَقسِمْه اللهُ لك لم يقدِروا عليه، وإن أرادوا أن يضرُّوك بشيءٍ لم يقضِه اللهُ عليك لم يقدروا عليه ، واعمل للهِ بالشكرِ واليقينِ ، واعلم أنَّ في الصبرِ على ما تكرَه خيرًا كثيرًا ، وأنَّ النصرَ مع الصبرِ، وأنَّ الفرجَ مع الكربِ ، وأنَّ مع العسرِ يُسرًا).

يُعتبر هذا المسار من أبرز الجوانب الروحية التي تُكسب الإنسان قوة داخلية تمكّنه من التعامل مع الأزمات والمحن بثبات. فالأنبياء هم أكثر البشر تعرضًا للابتلاءات، ومن بعدهم يأتي الأخيار بحسب مراتبهم ودرجاتهم؛ لحديث: («سُئِلَ رسولُ اللهِ: أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ؛ يُبتَلى الناسُ على قدرِ دِينِهم، فمن ثَخَنَ دِينُه اشتدَّ بلاؤه ومَن ضعُف دِينُه ضعُفَ بلاؤه، وإنَّ الرجلَ لَيُصيبُه البلاءُ حتى يمشيَ في الناسِ ما عليه خطيئةٌ).

يتجلى في هذا الحديث بُعد مهم آخر لهذا المنهج الديني، وهو التأكيد على حقيقة الحياة الآخرة بوصفها الحياة الأبدية التي يحصد فيها الإنسان نتائج صبره ورضاه وتسليمه لأمر الله. كما يرسخ هذا المفهوم اليقين بأن الفرج والسعادة قادمان لا محالة، وأن وعد الله حق لا ريب فيه؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾.

  ومن الجوانب الأساسية للمسارات الموازية أن يتجنب الإنسان حصر تفكيره في أزماته وإغفال النعم التي أكرمه الله بها، هذا النوع من التركيز المحدود قد يؤدي إلى إرهاق نفسي وجسدي، مما يمنعه من الاستمتاع بحياته وما تحويه من نعم. لذلك من الضروري ألا يضخم الأمور أو يبالغ في تقديرها؛ لأن الحفاظ على التوازن هو أمر جوهري ومطلوب. كما يجب أن يوقن بأن أزمته مهما بدت كبيرة، فهي صغيرة في ميزان قدَر الله، وأن كل لحظة صعبة ستمضي مع الوقت. فلا ينبغي أن يُعطي الأزمة أكبر من حجمها الحقيقي.

    ومن ناحية أخرى تأتي قضية “التصحيح والترقي”، إذ إن الأزمات -رغم مظهرها الضار- قد تحمل في طياتها خيرًا لا يدركه الإنسان، فالمرور بتلك المحن يمكن أن يكون بمثابة فرصة للنفس لترتقي من خلال مراجعتها والاقتراب أكثر من الله سبحانه وتعالى. فغالبًا ما تدفع الأزمات الإنسان نحو الله؛ ليعترف بضعفه وحاجته المطلقة للقوة التي لا تأتي إلا منه، مما يساهم في تصحيح مسار حياته وتوجيه قلبه لله عز وجل. كما تسهم هذه التجارب في تنمية قدرته على إدارة مشاعره والتحكم في صلابته النفسية عند مواجهته للمحن والابتلاءات، وذلك عبر استلهام العبر والدروس منها، والتذكُّر بأنه لا ملجأ ولا خلاص إلا بالله وحده.

 


المراجع:

  1. بودكاست سكينة | الحلقة الثانية: يا من تمر بأزمة.

اترك تعليقاً

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً

ملخص سريع

حين تعصف الأزماتُ بالقلوب، ويشتدّ الموجُ في بحر الحياة، لا تكون النجاة إلا في سفينة اليقين، وشراع السكينة، ومجداف الصبر. ينسج هذا المقال خريطة العبور من ظلمات المحن إلى ضياء الطمأنينة، مستندًا إلى يقينٍ راسخ، وبناءٍ نفسي متين، وعملٍ دؤوب بالأسباب، ومساراتٍ موازية تجعل من كل أزمة سُلَّمًا نحو الارتقاء؛ حتى يكون القلب مطمئنًا، والنفس مستقرة، والعقل متزنًا، فيكون للمرء في كل محنة منحة، وفي كل ضيق فرج قريب.

إسهامات الكاتب الأخرى

يتحدث المقال عن مفهوم النفس، مسلطًا الضوء على دورها في تشكيل شخصية الإنسان وسلوكه. عبر رحلة معرفية ثرية

استكشف المجالات والشعارات

موضوعات ذات صلة

حين تعصف الأزماتُ بالقلوب، ويشتدّ الموجُ في بحر الحياة، لا تكون النجاة إلا في سفينة اليقين، وشراع السكينة،

حين تعصف الأزماتُ بالقلوب، ويشتدّ الموجُ في بحر الحياة، لا تكون النجاة إلا في سفينة اليقين، وشراع السكينة،

حين تعصف الأزماتُ بالقلوب، ويشتدّ الموجُ في بحر الحياة، لا تكون النجاة إلا في سفينة اليقين، وشراع السكينة،

مقالات ذات صلة

إن الإيمان بالله الطريق الأقوم والأوحد لتحقيق الأمن النفسي في هذه الحياة، ومهما ذهب الإنسان في دروبها باحثا

إن غياب علم نفس إسلامي متكامل ليس نتيجة لعدم وجود أسس فكرية، بل هو انعكاس لوهم عدم الحاجة

لو نظرنا إلى سورة الفاتحة من هذه الزاوية، لوجدناها تشكِّل معينًا حياتيًا يوميًا للإنسان، ليبقى قلبه حيًا بمعاني

حين تعصف الأزماتُ بالقلوب، ويشتدّ الموجُ في بحر الحياة، لا تكون النجاة إلا في سفينة اليقين، وشراع السكينة،

الصبر خير مطية يبحر بها المسلم في رحلة الحياة الدنيا، يواجه به معاركها وأزماتها، إنه يجعل المرء دائما

تشعر العديد من الأمهات بالتقصير نظرًا لعظمة الدور الذي يقمن به، وهذا الشعور في حد ذاته دليل على

Scroll to Top