احدث الإشعارات

العبادة وعلم النفس الإسلامي.

ونحن في هذا الحقل نؤمن بأن تحقيق الصحة النفسية بمفهومها العميق لا يكون ممكنًا إلا إذا تحقق للإنسان مستوى طيب من الإيمان والالتزام العبادي؛ فالإيمان والعبادة لا يقدّمان مجرد دعم نفسي عابر، بل يسهمان في بناء توازن داخلي واستقرار وجداني لا يمكن للوسائل النفسية البحتة أن تحققه بمعزل عنهما.

أثر الإيمان في الإنسان.

في علم النفس الإسلامي عمومًا، وفي إطار النظرية النفسية الشاملة على وجه الخصوص، تُعدّ دراسة الإيمان والعبادة والأخلاق ركيزة أساسية في بناء فهم متكامل للنفس الإنسانية. إذ نؤمن أن علم النفس، في صورته الكاملة، لا يمكن أن يكتمل دون الإحاطة العميقة بمفاهيم الإيمان، وكيفية تَشكّله في النفس، ودور العبادة في تكوين التجربة الشعورية والسلوكية لدى الإنسان، وكذلك دون استكشاف العلاقة المتبادلة بين البعدين النفسي والتعبدي.

هذا المنظور ينبثق من الرؤية الإسلامية للإنسان بوصفه كائنًا موحّدًا في أبعاده، فالنفس الإنسانية في التصور الإسلامي، كيان موحد لا تنفصل في تكوينها ووظيفتها عن الجوانب الإيمانية والانفعالية والتعبدية. ومن هنا، فإن محاولة عزل الظواهر النفسية عن سياقها الإيماني والعبادي تمثل تأثرًا بنمط غربي حديث من التفكير، وهو نمط لا يتناسب مع البنية الكلية لفهم الإنسان في الإسلام.

ونحن في هذا الحقل نؤمن بأن تحقيق الصحة النفسية بمفهومها العميق لا يكون ممكنًا إلا إذا تحقق للإنسان مستوى طيب من الإيمان والالتزام العبادي؛ فالإيمان والعبادة لا يقدّمان مجرد دعم نفسي عابر، بل يسهمان في بناء توازن داخلي واستقرار وجداني لا يمكن للوسائل النفسية البحتة أن تحققه بمعزل عنهما. ومن هذا المنطلق، فإن دراسة العلاقة بين العبادة والصحة النفسية تسلك مسارين متكاملين: 

الأول: توظيف المعرفة النفسية لفهم أعمق لآليات الإيمان وأثره لتعزيز الممارسة التعبدية وزيادة هذا التأثير الإيماني في حياة الإنسان. 

والثاني: استثمار عناصر الإيمان والعبادة لتعزيز المفاهيم النفسية وتغذية جوانب الصحة النفسية بأبعادها المختلفة.

أثر الإيمان في التوازن النفسي.

إن العلاقة بين الإيمان والصحة النفسية لا تنحصر في الأثر المباشر للعبادة على المشاعر الآنية، بل تتجاوز ذلك لتُشكّل مسارًا طويل المدى من التشكل الداخلي، ومن بناء الاتزان والانضباط النفسي على مدى الحياة. فالإيمان، في حقيقته، ليس مجرد حالة شعورية عابرة أو نوعًا من الطمأنينة العابرة، بل هو بُنية وجدانية ومعرفية تتشكل عبر التلقي والوعي والتجربة، وكلما ازداد رسوخًا في القلب، أثمر حالًا من الطمأنينة والثبات والتوازن. وهذه الأحوال الإيمانية التي تصاحب الإيمان العميق؛ كالسكينة، واليقين، والخشية، والرضا، والصبر، هي في حقيقتها عناصر محورية في بناء شخصية سوية، مستقرة، قادرة على مواجهة التحديات والضغوط. ولذا، فإن العناية بهذه الأحوال وتحليلها ودراستها تمثل واجبًا علميًا أصيلًا في علم النفس الإسلامي.

الأثر التربوي والنفسي للعبادة.

وفي إطار هذا الحديث، تبرز العبادات—وخاصة الصلاة وتلاوة القرآن الكريم—كأدوات نفسية وروحية ذات تأثير مزدوج: مباشر وآني من جهة، وتراكمي وبنيوي من جهة أخرى. 

فهناك نوع من الأثر النفسي الفوري الذي يسعى كثير من الناس لتحصيله عبر العبادات: شعورٌ سريعٌ بالسكينة أو الاسترخاء أو الراحة، وهذا النوع من الأثر النفسي مطلوب ومشروع، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها”(صحيح أبي داود). غير أن هذا النوع، وإن كان مهمًا، ليس هو جوهر الأثر النفسي للعبادة، ولا يُمكن تحصيله إلا بعد مدة من المصاحبة الطويلة للعبادات، بحيث يصبح القلب أكثر شفافية واستعدادًا للتأثر.

أما الأثر الأعمق والأكثر رسوخًا فهو الأثر الممتد على مدى الزمن، ذلك الذي يتولد من “طول الصحبة” مع العبادة. هذا الأثر لا يمنح الإنسان مجرد راحة مؤقتة، بل يبني داخله قدرة على التكيف، ويهبه نمطًا من الفهم المتجدد لمعاني العبادة، بحيث تتغير علاقته بالصلاة والقرآن على امتداد العمر، ويكتشف في كل مرحلة مستوى جديد من المعاني الإيمانية.

العبادة وبناء الجانب الأخلاقي في الإنسان.

وهذه الأحوال النفسية الناتجة عن العبادة ينبغي دراستها علميًا، وتصنيفها وصفًا وتحليلًا، لأنها تمثل مادة أصيلة في الفهم النفسي للإنسان. فإلى جانب الأثر الشعوري، تسهم العبادات في ترسيخ آلياتٍ نفسيةً مثل ضبط السلوك، والتدرّب على الصبر، وتعزيز القدرة على التحكم في النفس، وهي كلها وظائف نفسية جوهرية تُعدّ العبادات مجالًا عمليًا حقيقيًا لتدريب النفس عليها. ومن هنا نفهم عمق قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]، فالصلاة لا تقوم بذلك من باب التلقين المباشر، بل من خلال إعادة تشكيل النفس شيئًا فشيئًا، على نحو يجعلها أكثر وعيًا، وأقدر على إدارة السلوك والأفعال في الحياة.

خصوصية العبادات الإسلامية.

تتميّز العبادات في الإسلام عن غيرها من الأنظمة التعبدية في الثقافات الأخرى أنها “توقيفية”؛ أي أنها ليست محلًا للاجتهاد البشري في جوهرها، بل هي منزّلة كما هي. وهذا الضابط له أثر جوهري في حفظ قيمتها النفسية، إذ يمنعها من التحول إلى طقوس تستجيب لرغبات الإنسان الآنية أو ضغوطه النفسية. ففي حين تحوّلت كثير من العبادات في الديانات والفلسفات الأخرى إلى وسائل لتحصيل “الراحة” أو “القوة النفسية” كما هو الحال في اليوغا والتأملات الشرقية، بقيت العبادات في الإسلام مرتبطة بهدف واضح وهو: تحقيق العبودية لله تعالى.

وهذا التمايز لا يظهر فقط في الشكل، بل في المضمون أيضًا، فالعبادات الإسلامية لا تستهدف الخلاص من الجسد أو الوصول إلى حالة نفسية استثنائية، بل هي جزء من منظومة متكاملة لا يمكن فصلها عن الإيمان والتوحيد. فلا يمكن لغير المسلم أن يصلي مثلًا ليستفيد من الفوائد النفسية للصلاة كما هو الحال في التأملات البوذية، فالعبادات الإسلامية واضحة المقصد:﴿وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]، فهي تُمكّن الإنسان من الترقي الإيماني في مراتب العبودية، دون أن يخرج من إطار العبودية ذاتها. وهذا التصور ضروري في علم النفس الإسلامي، لأنه يضبط مفهوم “الترقي النفسي” ويمنعه من الانحراف نحو رؤى خارقة أو غيبية مضلّلة.

ومن ثَمّ، فإن الفوائد النفسية التي تنتج عن العبادة لا تُعدّ غاية في ذاتها وليست مقصودًا أوليًا؛ بل هي ثمرة تالية للامتثال الإيماني والتعبدي الصادق. 

 


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اترك تعليقاً

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً

ملخص سريع

ونحن في هذا الحقل نؤمن بأن تحقيق الصحة النفسية بمفهومها العميق لا يكون ممكنًا إلا إذا تحقق للإنسان مستوى طيب من الإيمان والالتزام العبادي؛ فالإيمان والعبادة لا يقدّمان مجرد دعم نفسي عابر، بل يسهمان في بناء توازن داخلي واستقرار وجداني لا يمكن للوسائل النفسية البحتة أن تحققه بمعزل عنهما.

إسهامات الكاتب الأخرى

موضوعات ذات صلة

ونحن في هذا الحقل نؤمن بأن تحقيق الصحة النفسية بمفهومها العميق لا يكون ممكنًا إلا إذا تحقق للإنسان

ونحن في هذا الحقل نؤمن بأن تحقيق الصحة النفسية بمفهومها العميق لا يكون ممكنًا إلا إذا تحقق للإنسان

ونحن في هذا الحقل نؤمن بأن تحقيق الصحة النفسية بمفهومها العميق لا يكون ممكنًا إلا إذا تحقق للإنسان

مقالات ذات صلة

المقال يستعرض التكامل بين النفس والعقل والقلب والروح في المنظور الإسلامي، مقدمًا رؤية شمولية للإنسان مقارنة بالفلسفة الغربية

ما من إنسان ولد في هذه الدنيا إلا ويتعرض لأمور تستدعي الصبر عليها أو تستدعي الصبر عنها؛ غير

لقد قدر الله تعالى رحمة منه بعبده وإحسانا إليه أن يجعل عمره في هذه الحياة ذا أطوار متعددة،

يناقش المقال سؤال طرحه الدكتور خالد: هل علم النفس الغربي يدرس النفس فعلا؟ ويبين كيف أن هذا العلم

إن الطريق إلى الله تعالى يحتاج إلى زاد ومعين حتى يتحصل على سكينة النفس وسكون الروح والحياة الطيبة،

ونحن في هذا الحقل نؤمن بأن تحقيق الصحة النفسية بمفهومها العميق لا يكون ممكنًا إلا إذا تحقق للإنسان

Scroll to Top