المقدمة:
الحمد لله الذي خلق الإنسان من العدم، وفضّله على سائر المخلوقات، وأودع فيه -برحمته- فطرةً تعرفُ ربَّها وخالِقَها، وكتب له في دار الدنيا أجلًا محددًا. والصلاة والسلام على سيّد ولد آدم محمدٍ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم والتابعين. وبعد:
فإن خلق الإنسان لآيةٌ من آيات الله الباهرة، والناطقة بقدرته وعظمته، حيث خلقه من العدم ثم سوّاه، وكرّمه بأن نفخ فيه من روحه، ثم أسجد له ملائكته؛ فكانت النفخة سر التكريم، وكانت السجدة سر التتويج لبيان مكانة هذا الإنسان.
لقد شاء الله كونًا وقدرًا أن يختبر الإنسان في هذه الحياة، وأوضح له أن السبيل الآمن فيها طريقٌ واحد، ﴿فَإِمَّا یَأۡتِیَنَّكُم مِّنِّی هُدࣰى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَایَ فَلَا یَضِلُّ وَلَا یَشۡقَىٰ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَةࣰ ضَنكًا وَنَحۡشُرُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَعۡمَىٰ﴾(1)، وأن الدنيا ليست بدرا قرار، بل هي ممر عبور، وأن عليه لزوم هديه، وما أمره به حتى يعود لمنزله الأول –الجنة- بسلام، ليكمل حياته الأبدية هناك بلا مكدرات ولا منغصات، حياة لا انقطاع لها ولا زوال ﴿۞وَأَمَّا ٱلَّذِینَ سُعِدُوا۟ فَفِی ٱلۡجَنَّةِ خَـٰلِدِینَ فِیهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَاۤءَ رَبُّكَۖ عَطَاۤءً غَیۡرَ مَجۡذُوذࣲࣲ﴾(2)، وبين له أمورًا إن التزمها كان سيره آمنًا إلى دار الخلود وهي: الحذر من الرضا والاطمئنان للحياة الدنيا لأن هذا يضره ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ لَا یَرۡجُونَ لِقَاۤءَنَا وَرَضُوا۟ بِٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَٱطۡمَأَنُّوا۟ بِهَا وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَنۡ ءَایَـٰتِنَا غَـٰفِلُونَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡسِبُونَ﴾(3)، وإعلامه بأنه ليس بمعمر في هذه الحياة وأن ﴿كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ﴾(4)، ومنها أنه سيتقلب بين مراحل عمرية مختلفة ﴿هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن تُرَابࣲ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةࣲ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةࣲ ثُمَّ یُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلࣰا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوۤا۟ أَشُدَّكُمۡ ثُمَّ لِتَكُونُوا۟ شُیُوخًا﴾(5)، ﴿۞ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن ضَعۡفࣲ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ ضَعۡفࣲ قُوَّةࣰ ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةࣲ ضَعۡفࣰا وَشَیۡبَة﴾(6)، فياله من بيان وأي بيان، إنه لصمام أمانٍ لمن أراد الحياة الطيبة في الدنيا، والسعادة في الآخرة.
إن تدُّبر المراحل العُمرية التي جاء بها القرآن الكريم من أعظم ما يُعين على فهم معنى الحياة الدنيا، وأنّه لا خلود فيها، ولا بقاء لأحد حتى الأنبياء.
فهل فهمنا -حقًا- معنى الحياة وقيمتها؟ هل الحياة التي نعيشها هي فقط الحياة أم هناك حياة آخرة؟ كيف نتعامل مع الحياة التي نعيشها؟ وهل هناك ارتباط بين الصحة النفسية وبين علاقتنا وموقفنا من هذه الحياة؟(7).
لقد كتب الله تعالى الفناء على كل شيء ﴿كُلُّ مَنۡ عَلَیۡهَا فَانࣲ﴾(8)، فالدنيا على ضخامتها في أعيننا وما فيها فانية، والإنسان فانٍ، وفناؤه جَلِيٌّ، بَيَّنَهُ الله تعالى بذكره مراحلنا التي نعيشها ونمر بها في هذه الحياة.
إن العبد حين يتأمل محدودية أجله ومحدودية قواه الجسدية وأنه صائرٌ إلى الفناء، صَحَّتْ تصوراته عن الحياة الدنيا، وأصاب في سعيه فيها؛ لأنه يدرك أنها ممر مؤقت وأن العمل فيها يحسن آخرته ﴿وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡیَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَانَ سَعۡیُهُم مَّشۡكُورࣰا﴾(9)، فإذا ما سعى في دنياه لتحسين آخرته فإنه ينال –بإذن الله- الحياة الطيبة هنا والسعادة الأبدية هناك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الدنيا سجن المؤمن”(10)، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: “حُفَّتِ الجنةُ بالمكاره”(11)(). ومع ذلك فمفهوم سجن المؤمن لا يتعارض مع السعادة، سجن المؤمن المقصود فيه -وهذا أحسن الشروح لها- أنه سجن في مقابل ما سيحصّله في الآخرة مهما كان في هذه الدنيا من نعيم حتى ولو كان أنعم المنعمين فهو مقارنة بما سيحصّله في الآخرة فهو في سجن(12).
إن تأمل الإنسان مراحله العُمرية -والتي يظهر أثرها جليًا في تغير جسده الذي يقوى بعد ضعف، ثم يضعف بعد قوة، ثم يموت فيكون للبِلى والفناء- لمن أهم المعينات على اليقين بسرعة انقضاء الحياة وعدم بقائها، ومن وعى ذلك وأدركه أيقن بأن الحياة التي تستحق العمل لها هي الدار الآخرة ﴿وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ﴾(13) فهي دارُ الخلود السرمدي؛ التي لا تعرف البلى ولا الآجال المحدودة بل ﴿خَـٰلِدِینَ فِیهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ﴾(14).
إن انتقال الإنسان من مرحلةٍ عُمريةٍ لأخرى قد يسعده في البدايات، فالأطفال يتمنون أن يصبحوا شبابًا، والشباب يريدون أن يصبحوا رجاًلا، بيد أن هذه السعادة سرعان ما تصبح مُكدَّرة؛ حينما تبدأ مراحل الضعف في حطِّ رحلِها، عندئذ قد تبدأ مرحلة الآلام النفسية عند كثير من الناس لأن شمس العمر أوشكت على المغيب، وإن السبيل الأقوم للتخلص من هذه الآلام أن نصحح نظرتنا للدنيا فننظر لها بعين القرآن والسنة؛ حينها فقط يتجلَّى للإنسان معناها الحقيقي الذي يجب أن يُعاش، فإن من أهم ما يصبره علمه أن الدنيا كلها إلى زوال –وليس هو فحسب- وأن علاقته بالدنيا كلما كانت عميقة قوية أثرت على صلته بالآخرة وجعلته يخشى الاقتراب منها، ولقد فقه الصالحون هذه المعاني فجاءت وصاياهم لتنير الدروب المظلمة ومن ذلك:
- ما ورد عن عثمان بن عفَّان -رضي الله عنه-: الدنيا خضرة، قد شُهِّيَتْ إلى الناس، ومال إليها كثيرٌ منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا، ولا تثقوا بها، فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلَّا من تركه(15)ا.
- وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بني، بعْ دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا، ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعًا(16).
- وقال ابن الجوزي رحمه الله: “واعلم أن خلقًا كثيرًا سمعوا ذم الدنيا ولم يفهموا المذموم، وظنوا أن الإشارة إلى هذه الموجودات التي خلقت للمنافع من المطاعم والمشارب، فأعرضوا عما يصلحهم منها فتجففوا فهلكوا، ولقد وضع الله جل وعلا في الطباع توقان النفس إلى ما يصلحها، فكلما تاقت منعوها ظنًّا منهم أن هذا هو المراد(17).
- وقال ابن القيم رحمه الله: الدنيا في الحقيقة لا تُذَمُّ، وإنما يُتوجه الذمُّ إلى فعل العبد فيها، ولكن لَمَّا غلبتْ عليها الشهوات والحظوظ، والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة، فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها، وهو الغالب على اسمها، صار لها اسم الذم عند الإطلاق، وإلا فهي مَبْنَى الآخرةِ ومزرعتُها، وفيها اكتسبتْ النفوسُ الإيمان، ومعرفةَ الله ومحبتَه وذكرَه ابتغاء مرضاته، وخيرُ عيش ناله أهل الجنة في الجنة، إنما كان بما زرعوه فيها، وكفى بها مدحًا وفضلًا”(18).
*****
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- طه: (124).
- هود: (108).
- يونس: (7-8).
- آل عمران: (185).
- غافر: (67).
- الروم: (54).
- بودكاست سكينة حلقة 5 | البناء النفسي مع د. خالد بن حمد الجابر
- الرحمن: (26).
- الإسراء: (19).
- أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
- متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
- بودكاست سكينة حلقة 4 | وصفة السعادة. مع د. خالد بن حمد الجابر.
- العنكبوت: (64).
- هود: (108).
- الفتنة ووقعة الجمل، سيف بن عمر الأسدي، تحقيق أحمد راتب عرموش، دار النفائس.
- إحياء علوم الدين للغزالي، دار المعرفة، بيروت.
- غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب للسفاريني، مؤسسة قرطبة، مصر.
- تفسير ابن القيم، عند تفسيره لقوله تعالى: (ٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱ وَزِینَة﴾ الآية: الحديد (20).