في لحظات الأزمة، لا تكون المسألة فقط في “ما الذي يحدث لنا؟”، بل في: كيف نتعامل معه؟
تتسلل الأسئلة بصمت: لماذا أنا؟ لماذا الآن؟ كيف أحتمل هذا الألم؟ وتبدأ النفس رحلة صامتة بين الرجاء واليأس، بين الإيمان والسؤال، بين المحاولة والانكسار.
لكن تلك الرحلة، وإن بدت شخصية تمامًا، فإنها تعكس سؤالًا أكبر: كيف ينظر الإنسان إلى أزماته؟ من أين يستمد القوة؟ وكيف تُبنى النفس لتثبت حين يهتزّ كل شيء؟ هنا تحديدًا، يصبح الحديث عن علم النفس الإسلامي ضرورة لا ترفًا. لأنه لا يتعامل مع الأزمات بوصفها “اختلالًا طارئًا” فقط، بل يراها جزءًا من سُنن الحياة، ومن مسار بناء النفس وتربيتها، ومن مسيرة الإنسان نحو الله –جلّ جلاله–.
في هذا المقال، لا أسعى إلى تفصيل أركان النموذج الإسلامي للتكيف مع الأزمات، لكني فقط ألمح إلى معالمه في ضوء التصور الإيماني. هذا النموذج لا يبدأ من توصيات سلوكية، بل من تصوّر وجودي عن الابتلاء، وعن حقيقة الدنيا، وعن الصلة بين النفس وربّها –سبحــانه وتعالى–. في حلقة (يا من تمر بأزمة) في بودكاست “سكينة”، أشار د. خالد الجابر إلى أن أول ما يحتاجه الإنسان وقت الأزمة هو اليقين: أن يعرف أن ما يجري له لم يخرج عن إرادة الله –تبارك وتعالى–، وأن يفهم البلاء في سياقه الحقيقي لا في ألمه المجرد. (1)
اليقين ليس فكرة ذهنية باردة، بل هو ما يُنتج السكينة. هذه السكينة ليست انطفاءً، بل ثباتًا داخليًا أمام الموج؛ قدرة على الصبر دون التجمّد، وعلى الحزن دون الانهيار، وعلى التوكل دون التواكل. ولهذا لا يطلب النموذج الإسلامي من الإنسان أن يكون كالحجر، بل أن يكون بشرًا له قلب، لكنه قلب موصول بالله –جلّ جلاله–.
ثمّة فارق جوهري بين أن تُطالَب بالصبر لأن “الصبر فضيلة اجتماعية”، وبين أن تصبر لأنك تستند إلى سند أعلى. ﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ ليست فقط آية، بل منهج نفسيّ متكامل، يعيد تعريف القوة لا بوصفها قهرًا للضعف، بل اعترافًا به وسندًا لله فيه. ومن هذا المنظور، لا تكون الأزمة عارضًا مؤلمًا فقط، بل فرصة لانكشاف ما في النفس، ومجالًا للتقوية، لا للانهيار.
وهكذا تُفهم الأزمة في النموذج الإسلامي: لا كعقوبة، ولا كاختبار جاف، بل كمرحلة قد تنقلك من سطح الحياة إلى عمقها. وقد أشار د. خالد في البودكاست نفسه إلى أن بناء النفس لا يبدأ من لحظة الشدة، بل يُصنع قبلها، في أوقات الرخاء، في التزكية، والتربية، وصدق العلاقة بالله –سبحــانه–. فإذا جاءت الشدّة، كشفت لك ما فيك، وأعطتك – إن أحسنت التعامل – فرصة أن تعود إلى نفسك، وأن تعود إلى الله. (1)
وإنه لمن الجمال في هذا النموذج أنه لا يفصل بين التوكل وبذل الأسباب، ولا بين الرضا والسعي، ولا بين الصبر والمعالجة. بل يجمع بينها كلها؛ يعطي الإنسان حقّه في التعب، وفي أن يتوقف ليستريح، دون أن ينسى أن له ربًّا لا يخذله. وفي قلب هذه الثنائية، يُبنى التوازن: أن تكون النفس قوية بالله، لا مغرورة بنفسها، ساعية بحكمة، لا منهكة في صراع.
قد يطول البلاء، ويشتدّ الألم، وتضيق النفس، لكن حتى حينها، فإن في قلب النموذج الإيماني فكرة تُربّي النفس على الرجاء، لا على التعلّق بنتيجة بعينها، بل على الثقة في الله –تبارك وتعالى–، والرضا بما أراده، ومعرفة أن الفرج ليس شكلًا واحدًا، بل أبوابًا متعدّدة: سكينة، سلوان، تعويض، نور في القلب، أو حتى فرجٌ مؤجل في الآخرة.
وفي كل هذا، لا تُهمَل المعايير النفسية، بل يُعاد وضعها في سياقها الصحيح. لا يُعاب الإنسان إن تعب، ولا يُطالَب بالكمال، بل يُربّى على الوعي، والصدق، والعمل. وإن ضعفت النفس، فلها أن تستريح، لا أن تستسلم. وإن بكت، فلا يعني ذلك فشلًا، بل يعني أن القلب حيّ. وفي الحديث: “إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا”. ومن هذا الوعي، تبدأ النفس رحلتها الحقيقية نحو القوة، لا القوة المزيفة، بل التي تأتي من السند، ومن الصدق، ومن الصبر الجميل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ