المقدمة:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، والصلاة والسلام على نبي الرحمة والهدى محمد وآله وصحبه والتابعين. وبعد:
فقد أوحى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنور المبين، الذي قال في شأنه:﴿لَّا یَأۡتِیهِ ٱلۡبَـٰطِلُ مِنۢ بَیۡنِ یَدَیۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِیلࣱ مِّنۡ حَكِیمٍ حَمِیدࣲ﴾[فصلت: 42]، وصفه بالروح فقال:﴿وَكَذَ لِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ رُوحًا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِی مَا ٱلۡكِتَـٰبُ وَلَا ٱلۡإِیمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلۡنَـٰهُ نُورࣰا نَّهۡدِی بِهِۦ مَن نَّشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ﴾[الشورى: 52]، وأوحى إليه بالسنة النبوية وهي النور الثاني:﴿وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیࣱ یُوحَىٰ﴾[النجم: 3-4]، وقال عليه الصلاة والسلام:(ألا إني أُوتيتُ القرآنَ ومثلُه معه)(1)، فالسنة النبوية المباركة شارحةٌ ومفصِّلةٌ لما أُجمل في القرآن الكريم، فالقرآن والسنة خرجا من مشكاة واحدة، وهما وحيٌ من الله تعالى رحمة منه بخلقه.
إن تدبُّر القرآن وحسن استقبال المواعظ كفيلُ بتحقيق نقلة نوعية للعبد في هذه الحياة، يقول تعالى: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها﴾[محمد: 24]، وفي الآية استنكار لعدم تدبرهم وكأن القلب عليه قفلٌ يمنع استقبال الدِّين، واستقبال الخير، واستقبال الموعظة(2).
إن انغماس العبد في شهوات الدنيا وابتعاده عن هدي ربه يجعل قلبه في غمرة، كما قال تعالى:﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ﴾[المنافقون: 3]. والغمرة تعني أن قلوبهم غارقةٌ، غمرها الماء، فالذي غمره الماء لا يستطيع أن يتكلم، لا يستطيع أن يتنفس، سبحان الله! القلوب المُعْرِضةُ البعيدة كأنها لا تستطيع أن تتكلم، لا تستطيع أن تتنفس(3).
إنّ الناس جميعًا في هذه الحياة يبحثون عن السعادة، ما هي مصادرها؟ كيف نتحصل عليها؟ كيف نحافظ على دوامها واستمرارها؟ وإن أحد أهم مصادر هذه السعادة هو الدين.
إن الدين لا يضمن السعادة المُطلقة الكاملة إذا انتفت الأسباب الأخرى؛ لكنه يضمن السعادة الجيدة الفاخرة الشاملة التي لا تكون لغير المؤمن، وهي الجوانب الدينية وما يتعلق بها.
أما السعادة التي يحصلها غير المؤمن سعادة رديئة؛ لأنها مرتبطة بالجسد فقط، سعادة ناقصة جزئية ورديئة، ليس فيها تنوع وليس فيها الجانب الديني، وهي سعادة مشروطة؛ لأنها مرتبطة بمصدر خارجي، وهي أهم من ذلك كله سعادة لا تنفعه في الآخرة(4).
ولذلك فإنّ القرآن والسنة كفيلان –بإذن الله- أن يضمنا للعبد –إن أحسن اتّباعهما- السعادة والطمأنينة في هذه الحياة، وقد جاءت الطمأنينة في الوحيين على معانٍ عدَّة، وهي(5):
- الأمان المقابل للقلق والخوف.
- يقين الإيمان (اليقين).
- الراحة النفسية الداخلية: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد: 28].
- الاطمئنان إلى صحة الفعل: أنا مطمئن أن العمل هذا صحيح.
- الثقة بالآخرين: اطمأننت إلى هذه المجموعة من الناس وثقت بهم.
- طمأنينة الحركة في الصلاة.
إن حاجة العبد في هذه الدنيا لتحقيق السكينة حاجةٌ فطرية، فهو مخلوق هذه الأرض بحيث أن السكينة تعتبر أحد حاجاته الفطرية الأساسية لأن الحلول المادية لن تكفي(6).
ولأن حاجة العبد لهذه المعاني الجليلة فطرية، وعليها مدار صلاح دنياه وآخرته، وجَّهنا النبي صلى الله عليه وسلم توجيهًا عمليًا لدوام التضرع لله بطلبها ودوام الدعاء بها ومن ذلك:
- (اللهم اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا، اللهمَّ متِّعْنَا بأسماعِنا، وأبصارِنا، وقوَّتِنا ما أحْيَيْتَنا، واجعلْهُ الوارِثَ مِنَّا، واجعَلْ ثَأْرَنا عَلَى مَنْ ظلَمَنا، وانصرْنا عَلَى مَنْ عادَانا، ولا تَجْعَلِ مُصِيبَتَنا في دينِنِا، ولَا تَجْعَلْ الدنيا أكبرَ هَمِّنَا، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولَا تُسَلِّطْ عَلَيْنا مَنْ لَا يرْحَمُنا)(7).
- اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي(8).
- تعليمه للصحابة كلمات يتعاملون بها مع الفزع: أعوذ بِكَلماتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، من غَضبِهِ وشرِّ عبادِهِ، ومن هَمزاتِ الشَّياطينِ وأن يحضُرونِ(9).
لقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدعوات المباركات جوامع الخير كلها ومنها:
- حسن التضرع لله تعالى وسؤاله نصيبًا من الخشية التي تحول بين العبد وبين معصيته.
- سؤاله الطاعة الدائمة التي يبلغ العبد بها جنته في الآخرة.
- سؤاله يقينًا يهون به عليه مصائب الدنيا، فهو هنا يقر بأن الدنيا لن تخلو من المصائب ولعلمه أنه لن يتجاوزها بنفسه سأله اليقين المهون لها.
- سؤاله إمتاعه بالأسماع والأبصار والقوة ما دام حيًّا، وفي ذلك إقرار وسابق علم بأنها تضعف وتضمحل، ولكنه يسأله البركة فيها حتى تكون الوارث منه.
- سؤاله الحذر من الدنيا وفتنتها بألّا يجعلها أكبر الهم، وفي ذلك دلالة على يقينه بالآخرة وانتظاره لقاء ربه دون تعلق بالدنيا الفانية.
يقول ابن القيم رحمه الله(10)(): “ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة السكينة، وأصل السكينة الطمأنينة والوقار، والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده، عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه ويوجب له زيادة الإيمان، وقوة اليقين والثبات”.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: “كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة، إلا التي في سورة البقرة”(11).
إن تحصيل السكينة الدينية يتم بتقوية الإيمان وقوة العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، الصلة بالقرآن طويلة الأمد، الأذكار طويلة الأمد، بحيث تكون الأذكار جزءًا من برنامجك اليومي، تكون قراءة القرآن جزءًا من برنامجك اليومي، تكون صلتك بالله جزءًا من البرنامج اليومي، وأوارد يومية أدبار الصلوات الصباح والمساء، قبل النوم، فهذه تراكمية على المدى البعيد تحصل نتائجها(12).
والحمد لله أولا وآخرا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- رواه أبو داود والترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب.
- العبادة والنفس | المحاضرة 2
- العبادة والنفس | المحاضرة 2
- بودكاست سكينة الحلقة 4 | وصفة السعادة. مع د. خالد بن حمد الجابر
- بودكاست سكينة الحلقة 7 | السكينة السكينة. مع د. خالد بن حمد الجابر.
- بودكاست سكينة الحلقة 7 | السكينة السكينة. مع د. خالد بن حمد الجابر.
- رواه الترمذي من حديث عبدالله ابن عمر.
- رواه ابن ماجه وأحمد والنسائي من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
- رواه أبو داود من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
- مدارج السالكين لابن القيم.
- نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، مجموعة مؤلفين .
- بودكاست سكينة الحلقة 7 | السكينة السكينة. مع د. خالد بن حمد الجابر.