إعادة الاعتبار للأمومة في المجتمع المعاصر
في الواقع، تعبر بعض الأمهات عن شعورهن بعدم النجاح، حيث يعتمدن في تقييمهن لذواتهن على معايير اجتماعية لا تتضمن اعتبار الأمومة في حد ذاتها نجاحًا وإنجازًا يستحق التقدير. وكثيرًا ما تصف الأمهات أنفسهن بأنهن “عاطلات عن العمل” لمجرد أنهن لا يحصلن على أجر مادي مقابل جهودهن، في حين أن نفس المهام لو أُديت خارج المنزل لاعتُبرت عملاً حقيقيًا يستحق المقابل. وهنا تكمن المفارقة التي تحتاج إلى إعادة نظر وتصحيح، فالأمومة ليست مجرد دور جانبي، بل هي نجاح عظيم وإنجاز قومي واقتصادي واجتماعي لا يمكن التقليل من شأنه. فكيف لا يُحسب هذا الدور؟ وكيف لا تدرك الأمهات قيمة ما يقدمنه للمجتمع والأسرة؟
الضغوط النفسية والتحديات الحديثة
في سياق الحديث عن التحديات التي تواجه الأمهات اليوم، لا يقتصر الأمر على النظرة المجتمعية للنجاح، بل يتعداه إلى الشعور المتزايد بالضغوط النفسية التي أصبحت سمة بارزة في عصرنا الحالي. يتأثر الأفراد اليوم بمتطلبات الحياة المتسارعة، وضعف الأسس النفسية التي كانت سابقًا تمنح الأمهات القدرة على التحمل والرضا. وبينما كانت الأمهات في الماضي يتحملن أعباء جسدية مضاعفة، مثل الطهي بدون أفران، والغسيل بدون غسالات، والتنقل بدون وسائل حديثة، إلا أنهن لم يكنَّ يعانين من الضغط النفسي بنفس الحدة التي نشهدها اليوم. لقد وفّرت المدنية الحديثة كثيرًا من وسائل الراحة، لكنها بالمقابل أخذت منّا السكينة والرضا، مما أدى إلى زيادة الشكوى والشعور بالضغوط.
ما الذي تغير في الحياة حتى زادت الضغوط؟
لقد ساهمت تغيرات جوهرية في إعادة تشكيل نظرة الأفراد لأنفسهم ولمجتمعهم، مما زاد من الشعور بالضغط، ومن أبرز هذه التغيرات:
- إعادة تعريف الإنجاز والنجاح: أصبحت مقاييس النجاح تتمحور حول الإنجازات المادية، مما أدى إلى تجاهل الإنجازات العاطفية والتربوية التي تحققها الأمهات يوميًا.
- تغيير مفهوم السعادة: تم تضييق نطاق السعادة ليقتصر على جوانب محددة مثل النجاح المهني، بينما لا يُنظر إلى الأمومة كمصدر أساسي لتحقيق السعادة والرضا.
- تصاعد الفردانية والاستحقاقية: أصبح التركيز على الذات والاستقلالية المطلقة دافعًا للشعور بالضغط، حيث يُنظر إلى إنجازات الأم على أنها تضحيات يجب تعويضها بدلاً من أن تُرى كقيمة جوهرية في بناء المجتمع.
ما الحل إذن؟
لمواجهة هذه التحديات وإعادة الاعتبار لدور الأمومة، تقدم النظرية نموذجًا من ستة حلول عملية تهدف إلى تعزيز مكانة الأم، وتصحيح المفاهيم المتعلقة بدورها، ودعمها نفسيًا واجتماعيًا لأداء رسالتها بثبات وثقة.
- تقوية البناء النفسي للأم على الأم أن تبدأ بتقوية ذاتها نفسيًا وروحيًا، فبناء نفسها بشكل متين يمكنها من بناء أسرتها على أسس قوية وثابتة. ويتم ذلك عبر محورين أساسيين:
- الزاد الإيماني: يمثل الجانب الإيماني مصدر قوة روحية وقلبية للأم، إذ يمنحها السكينة والاستقرار النفسي. فكلما زاد ارتباطها بالله من خلال أعمال القلوب الفعالة مثل الذكر والدعاء، كلما ازدادت قدرتها على مواجهة التحديات. الذكر من أيسر الأعمال التي يمكن أن تملأ بها روحها، أما الدعاء فهو سلاحها القوي، سواء في طلب العون والثبات لها أو لأبنائها. فالأمومة هي الوظيفة الوحيدة التي تستمر حسناتها بلا توقف، مما يجعل استحضار الأجر الأخروي دافعًا قويًا للاستمرار والثبات.
- الصبر: يعد الصبر من أقوى الأدوات التي تساعد الأم على أداء دورها بنجاح، خاصة في ظل الضغوط الخارجية التي تقلل من قيمة الأمومة. فصبرها على التعب والقلق والتحديات يعزز قوتها النفسية، ويؤهلها للوصول إلى مستويات عليا من التحمل والثبات، مستندةً في ذلك إلى زادها الإيماني. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
- إعادة تعريف النجاح غالبًا ما يكون الخطأ في تعريف النجاح سببًا في تحقيق إنجازات في مجالات معينة، بينما يتم إهمال مجالات أخرى قد تكون أكثر أهمية. الأم، بمجرد قيامها بدورها في رعاية أسرتها، فهي ناجحة بحد ذاتها، بغض النظر عن التقييمات الخارجية أو النتائج الظاهرة. فهي تقوم بوظيفة لا يمكن لأحد أن يحل محلها فيها، مما يجعل إنجازها فريدًا وعظيمًا. فالأمومة ليست مجرد دور، بل هي مشروع متجدد يمتد عبر الأجيال، حيث تساهم في بناء الأسرة التي تُعد النواة الأساسية لتكوين المجتمع.
- تصحيح المفاهيم حول الزواج والأمومة الزواج ليس مجرد علاقة بين فردين، بل هو مؤسسة تهدف إلى بناء أسرة متماسكة قائمة على أسس إيمانية. فهو يحقق اكتمال الفطرة من خلال الأبوة والأمومة، ويشبع الميل الفطري بين الزوجين بما يرضي الله. قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾.
- تحقيق السعادة من خلال الأمومة استشعار نعمة الذرية هو أحد مصادر السعادة التي قد يغفل عنها البعض. فالكثير من النساء حُرمن من هذه النعمة، بينما تمتلك الأم فرصة عيش هذه التجربة بكل تفاصيلها. لذا، فإن الاستمتاع بالنجاحات اليومية الصغيرة مع الأطفال يمنح الحياة طابعًا أكثر سعادة ورضا. قال تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
- إدارة العلاقات بذكاء بعد الزواج، تنشأ علاقات جديدة مع الزوج، والأهل، والعائلة الممتدة، والأبناء، مما يجعل إدارة هذه العلاقات مهارة أساسية. من المهم تجنب الدخول في معارك عبثية، وعدم خلق صراعات غير ضرورية تؤثر على استقرار الحياة. وهنا، يصبح التحكم في الغضب، وتقييم المواقف بحكمة، واتخاذ القرارات بين الصمت أو المواجهة أو الانسحاب، أمرًا بالغ الأهمية.
- التربية بالسكينة التربية ليست ساحة معارك يومية، بل هي عملية طويلة تحتاج إلى ضبط الانفعالات، وخفض سقف التوقعات، وإعادة تعريف الكثير من المفاهيم حول النجاح التربوي. فالتربية تهدف إلى بناء الإنسان وفق إمكانياته وظروفه، وليس وفق معايير مثالية غير واقعية.
وأخيرًا… تشعر العديد من الأمهات بالتقصير نظرًا لعظمة الدور الذي يقمن به، وهذا الشعور في حد ذاته دليل على وعيهن بأهميته. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ﴾. لذا، من المهم أن تستمد الأم قوتها من إدراك فضل هذا الدور العظيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ